كتب باتريك بوكانان السياسى الأمريكى البارز ومنافس الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش الأب على ترشيح الحزب الجمهورى لانتخابات الرئاسة عام 1992 مقالا على موقعه الرسمى على الإنترنت ينتقد فيه بشدة سياسات الرئيس الحالى باراك أوباما تجاه منطقة الشرق الأوسط وعلى الأخص الملف السوري، فى ضوء الموقف الروسى الأخير، ومواقف دول المنطقة، ومن بينها دول الخليج. المقال الذى حمل عنوان «بوتين فى سوريا : صديق أو عدو؟» تضمن اعترافا أمريكيا بصحة موقف الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بإرسال قوات إلى روسيا لمحاربة الإرهاب، وانتقادا حادا، وبالأسانيد المنطقية، لسياسات إدارة أوباما التى حملها مسئولية تصاعد نفوذ تنظيم داعش الإرهابي. وكتب بوكانان يقول : سياسة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى سوريا تتفق بشكل أكبر مع المصالح الأمريكية عن سياسة أوباما ووزير خارجيته جون كيري، فعلى الجانب الروسي، تقوم موسكو بإرسال الجنود والأسلحة والدبابات إلى قاعدة عسكرية بالقرب من مدينة اللاذقية الساحلية السورية، وذلك لكى تحافظ على إمداد دائم ومستمر للجيش السوري. كل ما يخشاه بوتين هو أن ينهار نظام بشار الأسد فى سوريا، لتسقط بعدها دمشق فى قبضة داعش والقاعدة، وبهذا يكون التيار المتطرف قد حقق واحدة من أكبر انتصاراته. ويأتى السؤال هنا : هل سياسة بوتين خاطئة؟ وينستون تشرشل قال عام 1939 إنه لا يمكن التنبؤ بما ستفعله روسيا، فهو لغز داخل أحجية، ولكن هناك مفتاحا يساعد فى حل هذا اللغز، وهذا المفتاح هو مصلحة روسيا الوطنية بشكل أساسي، وهذا ما يرتكز عليه بوتين فى اتخاذ قرارته. والسؤال هنا للأمريكيين : من نتوقع أن يسيطر على سوريا فى حالة سقوط نظام بشار الأسد؟ بانهيار نظام بشار الأسد سيتولى نظام داعش الإرهابى مقاليد الحكم فى دمشق، وستكون هناك مجازر للشيعة والمسيحيين، بالإضافة إلى هروب ما تبقى من سوريين إلى الأردن ولبنان وتركيا، ومنها إلى أوروبا. ويأتى السؤال هنا أيضا: لماذا تتعنت الولاياتالمتحدة وترفض التعاون مع موسكو؟ هل لا نزال نحمل الضغينة فى قلوبنا بسبب تدخلنا فى النزاع الأوكرانى الروسى ودعمنا لكييف فى القضاء على الموالين لروسيا هناك، الأمر الذى رد عليه بوتين من خلال ضم شبه جزيرة القرم؟! علينا أن نتجاوز ذلك .. فمن المتوقع أن يحدث بعض الاحتكاك بين أكبر قوتين عسكريتين فى العالم، ولكن علينا إدراك أنه ليس من مصلحتنا أن يتحول هذا التشاحن إلى حرب، ولكن إذا رجحنا كفة المصالح سنجد أنه من مصلحة الولاياتالمتحدة تجاهل ظاهرة الخوف من روسيا، أو «الروسيافوبيا»، والتعاون مع الجانب الروسى للقضاء على العدو الحقيقي، وهو داعش. فى الحقيقة، المشكلة فى سوريا ليست مع روسيا، ولا إيران، ولا حزب الله، ولا حتى نظام بشار الأسد، ولكن المعضلة الحقيقية تكمن فى نجاح تركيا وإسرائيل والمملكة العربية السعودية ودول الخليج فى إقناع الولاياتالمتحدة بأننا لن نستطيع أن نهزم داعش إلا من خلال إزاحة الأسد أولا. فقد أقنع هؤلاء الحلفاء الولاياتالمتحدة بأنه بمجرد أن ينهار نظام الأسد ستقود الولاياتالمتحدة تحالفا عربيا تركيا أمريكيا عملاقا للقضاء على داعش. وهذا بالطبع «كلام فارغ»، ويشبه ما قيل للولايات المتحدة قبل غزو العراق للإطاحة بنظام صدام حسين وإقامة دولة لتكون نموذجا للديمقراطية فى الشرق الأوسط، وأيضا هذا هو ما نصح به حلفاؤنا «محبو الحرب» فى الأزمة الليبية عندما أكدوا أنه بعد التخلص من معمر القذافى ستكون ليبيا دولة حليفة للغرب. فقد أكدت التجارب أن هذا الكلام ليس صحيحا، وأنه لم يؤد إلا إلى حروب دامية ومستمرة، وبرصد الواقع فى سوريا نجد أن الحرب الأهلية الدائرة لأكثر من 4 سنوات خلفت 250 ألف قتيل، وحولت نحو أربعة ملايين مواطن أى ما يقارب نصف الشعب السورى إلى لاجئين. ومن المؤكد أن نظام بشار الأسد، وإن صمد لفترة، فإنه سيذهب بلا رجعة، وأن سوريا لن تعود إلى الخريطة كما كانت فى السابق بعد هذا الكم من الخلافات العرقية. ومن هنا نجد أن من مصلحة الولاياتالمتحدة ألا ينهار نظام بشار الأسد، لأنه فى هذه الحالة سيكون الانتصار هنا لصالح داعش وجبهة النصرة، والتى تسيطر حاليا على أغلب أنحاء سوريا، وهنا ستتحول سوريا وبمنتهى السهولة إلى قاعدة استراتيجية لداعش تدير منها حربها فى بغداد، وتسدد ضرباتها الإرهابية للعالم. وتشير التوقعات إلى أنه فى حالة تطبيق سيناريو انهيار نظام الأسد سيخرج الجمهوريان جون ماكين ولينزى جراهام مطالبين الولاياتالمتحدة بإرسال قواتها لغزو سوريا وطرد نظام داعش الإرهابى من البلاد، وهنا ستسقط الولاياتالمتحدة فى جدال واسع الأفق يدور حول جدوى إرسال قوات أمريكية إلى سوريا للقضاء على التنظيم الإرهابى أم لا، وسيتعين علينا البحث عن أحمد الجلبى الجديد فى فيرجينيا! وهنا أستطيع أن أقولها بصراحة : إن بوتين على حق فى وضع تنظيم داعش على رأس قائمة الأعداء وليس نظام الأسد، وبالتالى أعتقد بأن سياسة الولاياتالمتحدة فى هذا السياق هى التى ينطبق عليها مقولة : اللغز داخل الأحجية، غير المفهومة!