أعوام وعقود مرت، سمُن فيها الفساد واستشرى ،حتى قطعت أذرعه الأمل على الحالمين بالإجهاز عليه ،فذلك الإخطبوط الذى طوق الدولة منذ الثمانينيات، انشأت الدولة فى سبيل القضاء عليه 12 جهازا ووحدة ، ولا جديد !وبقى الفساد على عهده «للركب» ، ولكنها ليست «الركب» التى كان يعنيها زكريا عزمى عن فساد المحليات فى عصر مبارك ، فقد وصلت خسائر الموازنة السنوية للبلاد ما يقارب ال 200 مليار جنيه سنويا بما يعادل ربع الموازنة السنوية ، فنحن نجنى حصاد تزاوج المال والسلطة الذى رسخ هو ونظامه له ، ذلك التزاوج الذى أدخلنا فى حلقة مفرغة ومفزعة ، فالسلطة التشريعية التى كانت تأتينا فى العصور السابقة برعاية المال الحرام والتزوير الذى كانت تقبله السلطة التنفيذية فى تلك العصور نفسها، كانت هى نفسها التى تنمق القوانين التى تمكنها من نهب ثروات البلاد وتمريرعقود الفساد عبر قوانين وتشريعات ، فأين كان السبيل لمكافحة الفساد مسبقا وقد صار نهج حياة ؟! .. ولكن ، الآن وقد تغيرت السلطات وتبدلت الإرادة السياسية .. ما هى الآلية الأفضل لمكافحة الفساد؟، وماذا عن القوانين المشبوهة التى صدرت فى العصور السابقة؟ ، وكيف تعرقل هذه القوانين إعادة أموالها المهربة والأرض المنهوبة وفرص الاستثمارات الضائعة؟، وكيف تم تقنين الفساد فى العهود السابقة ، وهل هناك حل ؟. يكشف عاصم عبد المعطى سليمان رئيس المركز المصرى للشفافية ومكافحة الفساد وكيل الجهاز المركزى للمحاسبات سابقا ، كيف بدأ الفساد قائلا ، إن الفساد ليس وليد اللحظة ، فقد عرفناه منذ زمن طويل لكنه توحش خلال العقود الأربعة الماضية عندما بدأ تسلل رجال الأعمال واصحاب رؤوس المال الى المشاركة الحزبية والسياسية ومن ثم الى البرلمان ، وهو ما تم استغلاله من قبلهم لسن تشريعات معيبة ،استطاعوا من خلالها تقنين الفساد والتهرب من العقاب عبر تلك التشريعات التى عملت على إثرائهم على حساب المواطن. القوانين الأربعون ويستطرد عبد المعطى ان هذه القوانين قدرها المركز المصرى للشفافية ومكافحة الفساد ب 40 قانونا ، هذه القوانين مكنتهم من نهب أراضى الدولة بموافقة القانون حتى إنك اذا فكرت فى استردادها يتم تهديدك بالتحكيم الدولى ، وقد شهدت مصر الكثير من تلك القضايا فى الأونة الأخيرة حينما أرادت استرداد ما نهبه البعض تحت بند الاستثمار ، وليس عنه ببعيد ملف الأموال المهربة التى أعاق عملية استردادها بعض الثغرات فى القانون ، مكنت المجرمين من الفوز بأموال البلاد التى نهبوها ، وكذلك ملف القروض التى لا يغطيها حساب المقترض الائتمانى ، لكن ثمة تسهيلات قانونية جرت لهم خصيصا فى العهود السابقة لتسهيل مخالفاتهم ، وكذلك قانون عدم الطعن على العقود المبرمة ، الذى جعل المواطن ليس من حقه تحريك دعوى إذا ما وجد فساد بين فى إحدى العقود ، ليصبح ليس من حق أحد تحريك دعوى ضد فساد فى عقد إلا موقعوه ، فهل يفصح مجرم عن نفسها إلا إذا اختلفا ويبدو أن المشرع لا يريد إزعاجا ما دام طرفى العقد راضين. ان تقارير الأدراج ويضيف قائلا: كانت التقارير الرقابية التى لا توافق هوى فى نفس الحكومة بالعصور السابقة ،يتم حفظها فى الأدراج المغلقة ولايؤخذ بتوصياتها ،ولعل عدم وجود برلمان ، جعل الحكومة تبدو رقيبا على نفسها ، وضعف الأجهزة الرقابية الموجودة رغم طنطنتها فى شتى وسائل الإعلام باستقلاليتها ، وبالرغم من وجود مواد دستورية تتيح لها الإستقلال، فكون جميع هذه الأجهزة يتم تنصيب رئيسها بالتعيين من قبل السلطة التنفيذية ، فهذا ما يجعل استقلالها محل شك، وكل هذه المقدمات يتم إسقاطها بالضرورةعلى تقاريرها الرقابية . وإذا كانت هناك قوانين تم التحايل لسنها حتى يتم تسهيل الفساد فى العصور السابقة ، فإن هناك قوانين أخرى تغافلت الدولة عن اقتباسها ، رغم انتشارها فى شتى دول العالم ،مثل قانون حماية الشهود والمبلغين وقانون منع الاحتكار ومساءلة الوزراء ، وقانون حق تداول المعلومات وحرية النشر ، فلماذا لا يتاح للصحافة والإعلام إجراء ردع عام عبر نشر تقارير رقابية لفاسدين ثبت فسادهم ويشير إلى أن الحكومة أقدمت على عدة محاولات لاستئصال شأفة الفساد لكنها لم تنجح، ففى عام 2007 شكلت لجنة للشفافية من خلال وزارة التنمية الإدارية، ولكنها فشلت ولم يصدر لها تقرير واحد عن الفساد، وتكرر ذلك فى عام 2010 وشكلت الحكومة مجددا لجنة برئاسة وزير العدل ولاقت المصير نفسه وخلال العام الحالى تشكلت المفوضية الاستراتيجية لمكافحة الفساد برئاسة رئيس مجلس الوزراء ، والآن تتردد الأنباء بتدشين وزارة لمكافحة الفساد ، وهو أمر غير منطقى أن تسعى الحكومة لمراقبة نفسها بنفسها ! كل هذه الحلول الهزلية لا تتناسب مع ما تفقده الدولة والمواطن جراء هذا الفساد المستشرى الذى يستنزف من 170 إلى 200 مليار جنيه ، بما يعادل ربع الموازنة السنوية ، وهو ما سيفقد المواطن بالضرورة دخله فى مقابل إحتلال مصر المركز ال 94 فى الفساد بين دول العالم . سرى للغاية ولذلك قدم عبدالمعطى روشتة العلاج ، قائلا: إنه لابد من توعية المواطن المصرى ان دخله يتم استقطاعه عبر اعلاء ثقافة الفساد هذه ، كما يجب إتاحة المعلومات وتداول التقارير الرقابية ، فلا حاجة للمجتمع باصطلاح «سرى ، وسرى للغاية» لأجل تحقيق الردع العام ، كما ينبغى تحقيق الاستقلالية الكاملة للأجهزة الرقابية بحيث لايتم تنصيب رؤساء تلك الاجهزة من خلال التعيين من قبل السلطة التنفيذية حتى لاتخضع لها ، وكذلك مؤسسات المجتمع المدنى التى تقلصت مهامها فى تلقى المنح والاستفادة منها دون قيامها بدورها فى التوعية ، كما أنه لابد من وجود قوة تفاعلية أو رقابة متبادلة بين السلطات الثلاث ، التشريعية والتنفيذية والقضاء ،حتى لا تتغول إحداها على الاخرى ، وأيضا استبدال القوانين التى أصلت للفساد بأخرى يمكنها مكافحته، وفقا للأعراف الدولية والتجارب السابقة ، بعد مراجعة القوانين السابقة من قبل اصحاب الكفاءات وليس اصحاب المصالح. دائرة مفرغة ويوضح محمد مصطفى محامى يعمل بقضايا مكافحة الفساد أن الدولة أنشأت 12 جهازا لمكافحة الفساد بدءا من الجهاز المركزى للمحاسبات والمنوط بالرقابة المالية وتقويم الاداء والرقابة القانونية على الادارة المحلية والحكومة المركزية ، وهيئة الرقابة الادارية التى تقوم بالرقابة المالية والادارية وفقا لقانونها ، بينما تمارس النيابة الادارية دورها الرقابى بشكل قضائى من خلال التحقيق فيما يتعلق بوقائع الفساد المالى والادارى ، فى الوقت الذى يقوم جهاز الكسب غير المشروع من خلال تبعيته لوزارة العدل بتولى فحص اقرارات الذمة المالية والتحقيق فى الشكاوى المتعلقة بالكسب غير المشروع ، وتعمل وحدة مكافحة غسل الاموال تحت تبعية البنك المركزى ، بينما تعمل مباحث الاموال العامة على مواجهة الجرائم التى تشكل عدوانا على الوضع الاقتصادى للبلاد وتضم بلاغات الرشوة والفساد ، بالاضافة الى اللجنة التنسيقية لمكافحة الفساد والتى تتبع مجلس الوزراء وتقوم بوضع خطط واستراتيجيات لمكافحة الفساد ، وجهاز حماية المستهلك والقائم على حماية حقوق المستهلك ، وهيئة الرقابة على الصادرات والواردات التى تقوم على الحفاظ على مستوى السلع المصدرة والمستوردة الى جانب حماية المستهلك ، والهيئة العامة للرقابة المالية والتى تقوم بالتفتيش على الجهات التى تعمل فى مجال الانشطة المالية غير المعروفة ، والجهاز القومى لتنظيم الاتصالات الذى يقوم على حماية حقوق المستخدم ، فضلا عن مكتب مكافحة الفساد الذى أنشأه النائب العام السابق هشام بركات فى 2014 ليعمل على دعم النزاهة ومواجهة جرائم الفساد .. هذه الأجهزة الاثنا عشر تبحث فى مجملها الكسب غير المشروع والدخول الزائدة التى ارتضاها احدهم عن طريق اتصاله بالمال العام بموجب الوظيفة او المنصب والتى قد يكون مصدرها استغلال الخدمة او الصفة وقد يكون المال المتحصل عليه للنفس او للغير وله عدة صور مثل التربح او استغلال النفوذ او المنح والتسهيلات والقروض. التفعيل وليس الاستحداث على الجانب الآخر يرى د. أسامة المليجى رئيس قسم المرافعات بجامعة القاهرة، أن مصر لديها الآليات الكافية لمكافحة الفساد، فقانون العقوبات والإجراءات الجنائية به من القوانين ما لا يوجد بدساتير العالم لمكافحة الفساد ولكن المشكلة فى تفعيل القوانين وعمل القائمين عليها ، مضيفا أنه لا يريد الإسراف فى سن قوانين أخرى جديدة لأن هذا الإسراف يؤدى الى الازدواجية التى قد تفضى بالنهاية الى تشتيت القاضى ، ولذلك فتفعيل الدستور الحالى بصياغة قوانين منظمة للعمل به أفضل من تفصيل قوانين خاصة تغرد وحدها خارج الدستور على طريقة «قانون مكافحة الإرهاب» ثم قانون «مكافحة الفساد » والأولى هو صياغة قوانين تنظم عمل الدستور المستفتى عليه وتعمل من خلاله وفى إطاره . ويتفق معه د. محمود كبيش العميد الأسبق لحقوق القاهرة ، قائلا: ليست المشكلة فى إيجاد آليات جديدة فأجهزة الرقابة الإدارية ومباحث الأموال العامة والجهاز المركزى المحاسبات والأجهزة الرقابية جميعا قادرة على القيام بمهامها المنوطة بها فى ملاحقة الفاسدين ، محذرا من الخلط وسط هذه الموجة من الحديث عن مكافحة الفساد بين من يعمل بجدية لمصلحة الوطن وبين الفاسدين الذين يبحثون عن الكسب غير المشروع ، وإطلاق الشائعات ووضع الجميع موضع الشبهات ، وهو ما قد يؤدى لإخافة الجميع وغل أيديهم عن العمل وعزوفهم خشية أن تطالهم الاتهامات إذا أطلقت بشكل عشوائى وأصبح المسئولون لقمة سائغة يلوكها الجميع. ومن ناحية اخرى يتحدث المستشار عبدالفتاح مراد رئيس محكمة الاستئناف العليا بالاسكندرية عن الطرق الواجب اتباعها لمكافحة الفساد داخليا ودوليا وذلك من خلال اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد والاجراءات الوقائية التى جاءت بها واهمها ضرورة ارساء وترسيخ السياسات التى تعزز مشاركة المجتمع وتأكيد النزاهة والشفافية والمساءلة وسيادة القانون، كذلك ضرورة اجراء تقييم دورى للقوانين والاجراءات الإدارية ذات الصلة من اجل تقرير مدى كفايتها لمنع الفساد ومكافحته، وايضا ضرورة التعاون بين الدول فيما بينها ومع المنظمات الدولية والاقليمية لتطوير المنظومات القانونية والتشريعية فى تلك الدول وتبادل الخبرات فيما بينها والاستفاد من خبرات الدول التى نجحت فى مكافحة الفساد وايضا ضرورة دعم من التعاون والتكامل بين منظمات المجتمع المدنى والحكومات للقضاء نهائيا على الفساد.