زرت سوريا الأسبوع الماضي، تجولت فيها من اللاذقية شمالا حتى دمشق جنوبا، رأيت هولا وعجبا، جنة فى وسط الجحيم، الموت والحياة يتبارزان فى أوطان سريعة الذوبان.. أربع سنوات والمظالم تروى الأرض بالدماء، رأس «النبى يحيي» بلا جسد، تحت قبة فى المسجد الأموي، على مرمى حجر من قبر صلاح الدين الأيوبي، سمعت أنينه وأنا أقرأ الفاتحة طالبا الرحمة للأوطان.. «سيف الله خالد بن الوليد» يردد من رقدته: «..لا نامت أعين الجبناء». هنا سوريا، حرب عالمية تدور رحاها بقسوة، فى إطار «لعبة الأمم» والنتيجة: قتل نحو 300 ألف سوري، أضعافهم جرحى ومعاقون، 14 مليونا هم أكثر من نصف سكان سوريا، لاجئون ونازحون، 300 مليار دولار خسائر اقتصادية، «داعش» دمرت الآثار التاريخية التى عجز كل الغزاة ، بمن فيهم التتار، عن تدميرها، رأيت مدنا نسفت بكاملها على رءوس البشر، وأحياء ذبح أهلها فردا فردا.. تركيا أردوغان سرقت 1500 مصنع من حلب العاصمة الثقافية والتجارية، ونقلتها إلى أرضها، تحت سمع وبصر الأممالمتحدة. لعلكم شاهدتم على الشاشات مأساة هذا الشعب العظيم صاحب الحضارة والإمكانات الكبيرة والموقع الاستراتيجى بالغ الأهمية والتأثير، لكن ما لا نعرفه - ورأيته بعيني- فهو أن الشعب السورى فى كل المناطق التى زرتها، يحيا حياة طبيعية، برغم القصف العشوائى والضحايا، لم يعد يخشى الموت لأنه أدرك أنه مصير كل حي، بالحرب أو بغيرها، لذلك يحرص على التعلق بأهداب الحياة والتمتع بها، الأسواق عامرة المطاعم ممتلئة، المصايف، المدارس الجامعات، المستشفيات، المواصلات، الخدمات العامة كلها تعمل.. الاقتصاد متنوع، تتكفل إيران بموارد الطاقة، تنتج سوريا ما تأكله، الطبيعة الساحرة وجمالها الأخاذ تمنحها مددا، 80 مليون شجرة زيتون.. لم يفلح الصراع الرهيب فى قطع الصلات بين مكونات الفسيفساء السورية العرقية والمذهبية، والتى تصل إلى 17 قومية، الناس هنا يجففون الدموع ويغسلون الدماء ويطاردون الفرح حتى يواصلوا حربهم مع أعداء الحياة.. يعشق السوريون مصر كأهلها، هم مصريون بالفطرة، يحفظون تاريخها وجغرافيتها، يحدثونك عن أن أول وحدة فى التاريخ كانت بين البلدين، عقب معركة «قادش» بين الفرعون رمسيس الثانى والحيثيين، والتى انتهت بأول معاهدة سلام فى العالم، وزواج الفرعون من ابنة ملك الحيثيين.. يقولون إن كل انتصارات الأمة العربية حدثت بوقوف مصر مع الشام فى وجه الأعداء: الصليبيين، التتار، الاستعمار الغربي... وصولا إلى نصر أكتوبر ضد العدو الصهيوني.. يقدرون الزعيم جمال عبدالناصر، ويشعرون بالاشمئزاز من قرار الرئيس الإخوانى المعزول «محمد مرسي»، قطع العلاقات وإعلان الجهاد ضد سوريا، ينظرون بإعجاب بالغ لخطوات الرئيس السيسى داخليا وخارجيا.. يمدون حبال الود مع مصر إلى حد العتاب، أن تتركهم فى مواجهة الإرهاب والشدائد، المحروسة بالنسبة إليهم هى الأمل والحصن الأخير للخروج من الورطة المستحكمة.. لاحظت أن السوريين غاضبون من بعض السياسات السعودية، لكنهم يترحمون على عهد قريب، قبل بضع سنوات، كانت العلاقات بين دمشقوالرياض فى ذروتها، وفق معادلة «س س»، يقولون ياليتها دامت، وراء هذا حنين لاستعادة المحور الذهبى المصرى السعودى السوري، فى تسعينيات القرن الماضي، والذى كان رافعة قوية لحماية الأمن القومى العربى من الأخطار العاصفة، حرب تحرير الكويت خير دليل، مازالت الكيمياء تعمل بين الرياضودمشق، العداوة لاتدوم، رئيس المخابرات السورية على المملوك زار السعودية أخيرا، والتقى الأمير محمد بن سلمان ولى ولى العهد. يثنى السوريون بشدة على روسياوإيران، بينما لايطيقون سماع اسمى تركيا وقطر، يعتبرون «قيادتى البلدين» رأس السيف المستدق فى «المؤامرة» على بلادهم وعلى الدول العربية، لمصلحة المخطط الإخوانى بزعامة رجب طيب إردوغان يقولون إنه «المرشد الحقيقي» للجماعة الإرهابية- لتفتيت دول المنطقة ونشر الدم والخراب بين ربوعها، خدمة لإسرائيل وحلفائها الغربيين. الأيام المقبلة حبلى بالمفاجآت..خلال لقاءات متعددة مع الوزراء وكبار المسئولين ومع الناس فى الشارع السوري، تولد لدى شعور بأن «توازن الضعف» بين المتحاربين وسخونة المعارك، وعجز كل طرف عن حسمها لصالحه ، فى موازاة الحراك الدبلوماسى المكثف بعواصم اتخاذ القرار إقليميا ودوليا، تدفعنا للقول إننا بانتظار رمية النرد أو نقلة الشطرنج الأخيرة فى الأزمة، وأن فصل الختام أو الحل السياسى المأمول، يجرى التمهيد له حاليا، خاصة بعد اعتماد الكونجرس الأمريكى «الاتفاق النووى» مع إيران، وبدء الحوار الخليجي-الإيراني، والجهد المصرى المتزايد لنزع المفجر عن «برميل البارود السورى»، بمساندة إماراتية-أردنية، قبل أن يحرق المنطقة بأسرها. إن ما جرى فى سوريا جرح غائر فى قلب الأمة و«خطيئة عربية كبري» يتحمل وزرها الجميع، بلا استثناء، داخل سوريا وخارجها، والحل الوحيد المقبول لمأساتها هو ما يضمن «وحدة سوريا وسلامة أراضيها ومؤسساتها»، ويكبح جماح الجماعات الإرهابية، لأنه لو سقطت سوريا بأيدى الإرهابيين اليوم، فسنجدهم، غدا يكررون السيناريو نفسه- وبمعونة إقليمية ودولية- على دول مهمة غيرها.. السوريون يعلقون أملا كبيرا على رشادة وزعامة أولى الأمر فى مصر والسعودية، ويحنون لاستعادة المحور الذهبى المصري-السعودى-السورى، حتى ينجو العرب جميعا من «تسونامى الإرهاب الموجه»، قبل فوات الأوان. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن