تستقبل الأمة الإسلامية هذه الأيام موسم الحج الذى اعتاد المصريون فيه على نشر مظاهر الفرح والسرور بمختلف أشكالها، فارتبط كل حدث من أحداث موسم الحج بطقوس احتفالية شعبية ابتكرها المصريون وتوارثوها جيلا بعد جيل،وعرفها العالم كله ونقلها على أنها علامة مصرية خالصة. ومن الأحداث التى ترتبط بالحج، واهتم بها الوجدان الشعبى المصرى اهتماما كبيرا، ما عُرف باسم "طلعة المحمل".. وهو الموكب الذى كان يحمل كسوة الكعبة المشرفة وينقلها من القاهرة إلى مكةالمكرمة. وقد اهتم المصريون بالاحتفالات المصاحبة للحدث نظرا لطبيعته الدينية، ولسعادتهم بنيل شرف كسوة الكعبة، وهو شرف لا يعادله شرف، لهذا فقد كان الشعب المصرى يخرج فى مظاهرات احتفالية تمتد بطول خط سير قافلة المحمل المُحملة بالكسوة والتى كانت تجوب العديد من المدن فى طريقها إلى السويس حيث تنقلها السفن إلى ميناء جدة. وكانت الكسوة تُحمل إلى الكعبة بعد تصنيعها فى دار الكسوة بالقاهرة، وذلك قبل موسم الحج فى مراسم احتفالية كبيرة، ويًقال أن هذه الاحتفالات قد بدأت لأول مرة بأمر من الظاهر بيبرس ملك مصر لأول مرة سنة 675هجرية، فأمر بأن يطوفوا بالمحمل وبكسوة الكعبة المشرفة القاهرة، ثم حول المصريون الاحتفال إلى يومين ثابتين: الأول يوم 27 من شهر شوال بمناسبة الانتهاء من صناعة الكسوة الشريفة وكسوة مقام إبراهيم، والثاني في يوم 13شهر ذي القعدة بمناسبة سفر المحمل والكسوتين إلى مكةالمكرمة. وذهب بعض المؤرخين إلى أن تاريخ المحمل يرجع إلى سنة 645ه، ووصف بأنه الهودج الذي أقل ملكة مصر شجرة الدر أثناء أدائها فريضة الحج، وأصبح بعد ذلك يسير فارغاً سنوياً أمام قافلة الحج. ويذهب البعض إلى أن فكرة المحمل أقدم من ذلك، وربما تعود إلى عصر ما قبل الإسلام، فكانت تُطلق على الجمل الذي يحمل الهدايا إلى الكعبة المشرفة. أما فى العصر الحديث، فيسير ركب المحمل ووسطه هودج فارغ، أما الكسوة فكانت توضع في صناديق وتحملها الجمال التى كانوا يزينونها، وذلك عكس ما يعتقد البعض الآن من أن الكسوة كانت توضع فى الهودج، وكان المحمل يطوف الشوارع بينما يصطف الرجال والنساء والأطفال لمشاهدته، وتزين المحلات التجارية في أحياء وشوارع مصر القديمة مع الرقص بالخيول وعزف فرق الطبول والمزامير والموسيقى، وتلاوة الأذكار على طول الطرق التى تقطعها القافلة فى شوارع القاهرة، فكان يتألق كبار المطربين والمنشدين فى إنشاد المدائح النبوية. وفى العباسية كانت تُتاح الفرصة للاقتراب من القافلة، فكان المحتفلون يحاولون مس المحمل بأيديهم أو تقبيله، مع زغاريد النساء من نوافذ المشربيات، وكان سكان المحروسة يعلقون زينات مخصوصة لهذه المناسبة لتظهر القاهرة فى أبهى مظاهرها، وكانوا يبلون السكر بماء الورد فى أحواض كبيرة يشرب منها الغادون والرائحون مدة ثلاثة أيام. وفى عصر المماليك كان الموكب يضم فرقة تسمى "البيراقدارية"، وهى الفرقة التى تضم حاملى الأعلام، وقد كانت جزءاً رئيسيا من الاحتفالات الرسمية والشعبية بالمحمل. وكانت الاحتفالات الرسمية والشعبية تبدأ بحفل رسمي كبير في الخرنفش أمام مسجد القاضي عبد الباسط قاضي قضاة مصر والمشرف علي صناعة الكسوة الشريفة حيث دار الكسوة التى أُنشئت عام 1233م, واستمر عملها حتى 1962م، ثم تخرج الكسوة في احتفال بهيج ويخرج وراءها معظم جموع الشعب المصري الي ميدان "الرميلة" بالقرب من القلعة، ويسير خلفها قضاة المذاهب الأربعة، وجميع أئمة المساجد ورؤساء الطوائف والحرف ومشايخ الطرق الصوفية بأعلامهم وبيارقهم الملونة، وجماعات الدراويش. ويطوف الموكب شوارع القاهرة من ميدان "الرميلة" حيث مكان الاحتفالية، ويتجه إلى "الفسطاط" حتى جامع الحاكم بأمر الله بالقرب من باب النصر، وفى عصر الملك فاروق تغير موكب المحمل ليخرج من دار الكسوة الي قصر عابدين مارا بمنطقة العتبة ثم إلى السويس. ومن غرائب الاحتفالات الشعبية فى طلعة المحمل والتى انتشرت فى بعض الفترات، أنه كان معتادا أن يصحبه شيخ ذو لحية يمتطي جملاً ويهز رأسه يميناً ويساراً، ويظل على هذه الحالة طوال رحلة السفر إلى الأراضى المقدسة، ويليه شيخ آخر يدعى "شيخ القطط" وبصحبته كميات من القطط داخل كيس، ولا يُعرف أصل هاتين العادتين، وليس في الإسلام ما يبررهما أو يدل على أصلهما. ولم تخل الاحتفالات الشعبية بالمحمل من ترديد الأشعار والأناشيد الدينية، فكان المحتفلون يرددون عددا من الأناشيد أبرزها: صلوا على النبى وزيدوا صلاته دا كان يلاغى القمر محمد ويفهم لغاته يا نخل مكة يا طويل يا عالى والتمر منك دوا للمبالى يا بير زمزم سلبك حريرى (السلب بفتحة على السين وأخرى على اللام هو الحبل) والشربة منك دوا للعليلى وكانوا يرددون أيضا: بيع اللحاف والطراحة حتى أرى ذى الرماحة بيع اللحاف ذى المخمل حتى أرى ذا المحمل ويذكرون النبى صلى الله عليه وسلم، فيقولون: كيف العمل يا احمد يوم طلعة المشهد كل العباد تشهد بإنك رسول الله والطريف أن المصريين كانوا يستغلون فرصة هذه التجمعات للانتقام من الأمراء الظالمين، وعندما يصاحب المحمل أى ممن يثقل كاهلهم بالظلم كانوا يرددون الأناشيد التى يدعون فيها على الظالمين، وذلك مثلما غنوا لأمير المحمل "الأتابكى الرجبى" عام 909ه قائلين: حججت البيت ليتك لا تحج فظلمك قد فشى فى الناس ضج حججت كأن فوقك حمل ذنبٍ رجعت وفوق ذاك الحمل خُرج وكان المحمل يضم ستائر الكسوة الشريفة الجديدة، ثمانية أحمال أو ستائر من الحرير الأسود الفاخر المخيط بالحرير الأبيض المفتول والمخيش الفضى الملبس بالذهب البندقى، بالإضافة إلى كردشيات (جامات) الكسوة، وستارة باب الكعبة (البرقع) وتتكون من: العتبة والطراز والقائم الصغير والقائم الكبير والوصلة، ثم كسوة مقام إبراهيم عليه السلام، وستارة باب مقصورة إبراهيم عليه السلام، وستارة باب التوبة، وستارة باب منبر الحرم المكى ثم كيس مفتاح الكعبة المشرفة، بالإضافة إلى كسوة الحجرة النبوية الشريفة وستارة المنبر النبوى. ومما يذكر عن الطقوس الشعبية التى يحرص عليها العُمال المكلفين بنسج الكسوة أثناء قيامهم بعملهم أنهم كان لابد أن يكونوا على طهارة، وأن يتوضأوا قبل مس القماش والخيوط بأيديهم، وكانوا يعملون على عبق رائحة البخور، ويبدأون عملهم يوميا بقراءة الفاتحة بصوت عالٍ، كذلك كانوا يضعون بجوارهم أطباقا مملوءة بماء الورد، وذلك لغسل أيديهم فيها عندما يسيل العرق عليها خوفا من تلوث الكسوة برائحة العرق، وكان فى دار الكسوة بئر يملأونه بماء زمزم الذى ينقلونه من مكة إلى القاهرة، وكانت كل معدات صنع الكسوة من قماش وخيوط وإبر تُغسل أولا بماء زمزم قبل استخدامها. وذكر الاحتفالات الشعبية المصرية بموكب الكسوة لم يقف عند المحدثين، لكن كتب التراث تنقل إلينا جانبا من تلك الاحتفالات، فقد أمدتنا كتب التراث من العلماء والمستشرقين بالكثير من المعلومات الهامة والتفصيلية عن تلك الرحلة وعن كل ما يتعلق بالعادات والتقاليد المرتبطة بها، وفى مقدمة من تحدث عنها ابن بطوطة والقلقشندي في كتابه «صبح الأعشى» والعياشي وإدوارد وليم لين، كذلك فقد لاقت هذه الاحتفالات اهتماما كبيرا من الباحثين فى الفلكلور فى كل العصور، حتى أن الكثيرين منهم قد أخذوا يحللون هذه المظاهر ليكتشفوا أصولها وأسبابها.