زس ن بها الإخوان, أو حزب الحرية والعدالة, اللجنة التأسيسية لوضع دستور مصر, دستور ما بعد ثورة 25 يناير 2011, ثم رد فعلهم للانتقادات لهذا التشكيل. ولا شك في أن جميع القوي السياسية في مصر- سواء تلك التي كانت تتفق مع الإخوان أو تختلف معهم- كانت تنظر بإمعان إلي السلوك الذي سوف ينتهجونه إزاء القضايا السياسية الكبري التي يتحتم عليهم التعامل معها, والتي كان في مقدمتها قضية استكمال بناء النظام السياسي المصري في مرحلة ما بعد الثورة, خاصة من خلال وضع الدستور المصري, وانتخاب رئيس الجمهورية. وسوف أتناول هنا فقط قضية وضع الدستور, تاركا لفرصة مقبلة مسألة انتخاب الرئيس التي أخذت مشاهدها المثيرة تتوالي أمامنا بالفعل. لقد أشرت في مقالي السابق بالأهرام (4 أبريل 2012) بإيجاز إلي الطريقة الهزلية للأسف- في اختيار أعضاء اللجنة التأسيسية للدستور, علي نحو يناقض كل الأعراف والتقاليد الدولية والمصرية, ولا يتناسب علي الإطلاق مع ما تمتلكه مصر من كفاءات دستورية وقانونية, بل ومع ما لدي الإخوان أنفسهم بالضرورة من خبرات متنوعة. وكما نعرف, فقد تم تكوين هذه اللجنة وفقا لنص المادة (60) من الإعلان الدستوري في 30 مارس 2011, والتي تنص علي أنه.. يجتمع الأعضاء غير المعينين لأول مجلس شعب وشوري في اجتماع مشترك, بدعوة من المجلس الأعلي للقوات المسلحة, خلال ستة أشهر من انتخابهم, لانتخاب جمعية تأسيسية من مائة عضو, تتولي إعداد مشروع دستور جديد للبلاد في موعد غايته ستة أشهر من تاريخ تشكيلها. والنص كما نري فضفاض, يفتح الباب واسعا أمام اجتهادات وتفاسير كثيرة, تخضع للأسف الشديد- للطموحات أو الأطماع السياسية لهذا الطرف أو ذاك. ولذا, سرعان ما تفجرت في النقاش العام في مصر قضية موقف البرلمان من الدستور, وأصبحت قضية تشكيل الجمعية التأسيسية هي: هل ينتخب أعضاء البرلمان لجنة المائة من البرلمان (أي هل ينتخبون أنفسهم)! أم يكتفون بنسبة معينة (50% أو20% مثلا), ويختارون هم أيضا الأعضاء الخارجيين؟! وللأسف, تحكم الإخوان بالكامل في تشكيل اللجنة, وسيطروا عليها, وبقية القصة معروفة من استقالات واحتجاجات من ناحية, ومن ردود أفعال إخوانية تنقصها الحكمة من ناحية أخري. واعتقادي الخاص أن هذه اللجنة فقدت مشروعيتها, فضلا عن أن هناك قضية مرفوعة ببطلانها (لم يبت فيها حتي لحظة كتابة هذا المقال)! غير أن ما يثير القلق ابتداء- هو الطريقة التي تعامل بها حزب الحرية والعدالة أو مناصروه مع تلك الاعتراضات علي تشكيل اللجنة. وعودة إلي عينات ردود الفعل تلك, تلفت الانتباه وتذكرنا بنوعية من التصريحات التي كانت تصدر عن الحزب الوطني: فالدكتور محمود حسين, أمين عام الجماعة, وصف تلك الانتقادات بأنها زوبعة مدبر ومخطط لها لتعطيل الدستور, وأشار إلي أن بعض القوي السياسية ثم الضغط عليها للانسحاب (موقع المصريون,1 أبريل 2012). وفي تعليق آخر, قال متحدث ثان إن الناقدين لتكوين اللجنة لا يجمعهم سوي كراهية الإسلاميين!, وإنهم يعاودون الاتصال بأذرعهم الخفية من البلطجية والمفسدين.. وأن لديهم رغبة دفينه في الانقلاب, لو أتيحت لهم وسائله. ووصف ثالث معركة الدستور التي تشتد ضد الأغلبية المنتخبة شعبيا بأنها معركة النفس الأخير. وتهكم رابع في موقع إسلامي- أيضا قائلا: من الطرائف الأخري أيضا تزايد المطالبات من جميع الفئات للمشاركة في وضع الدستور, فالممثلون, والمطربون, والشعراء, والمؤلفون يريدون المشاركة, وليس من المستبعد أن تطالب الراقصات أيضا بالمشاركة في وضع الدستور, بحجة الخوف علي عملهن الحر من استبداد الأغلبية! غير أن ردود الفعل تلك وأمثالها لا تغير من الحقيقة الأساسية شيئا, وهي أن هناك خطأ جسيما قد وقع بشأن قضية شديدة الأهمية. وهذا الخطأ يمكن إدراكه بوضوح كما قلت- سواء في ضوء الخبرة المصرية أو الأجنبية. ولن أتطرق هنا للخبرة المصرية بشأن دستوري 1923 و1954 مثلا (انظر مقال د. هالة مصطفي الأهرام 8 أبريل), وإنما فقط سوف أشير إلي الكيفية التي وضعت بها الدساتير في بعض من أكبر الديمقراطيات في العالم. إن القضية ببساطة شديدة هي أن الدستور, بحكم طبيعته وأهميته, لا بد أن تضعه الأمة كلها, الشعب كله, من خلال هيئة (جمعية, أو مجلس, أو لجنة... إلخ) تضم ممثلين لكل فئات الشعب, اجتماعيا, واقتصاديا, وثقافيا, وسياسيا, وإقليميا, بلا أي إقصاء أو تمييز! ولذلك, فإن تكوين هذه الهيئة أمر في غاية الأهمية والحساسية, وينبغي أن يكون حائزا علي رضاء الجميع بأقصي درجة ممكنة! وتلك مسألة تختلف عن اختيار الشعب لممثليه, في الانتخابات العامة, لعضوية البرلمان, وللقيام بوظائفهم التشريعية والرقابية. فإذا طرح السؤال: هل يضع البرلمان الدستور أيضا؟, فإن الإجابة المنطقية التي كررتها الغالبية العظمي من الفقهاء الدستوريين هي أن الدستور هو الذي ينشئ البرلمان, وبالتالي فلا يتصور أن يضع البرلمان الدستور. وفضلا عن ذلك, فإن البرلمان, في البلاد الديمقراطية, يفترض إما أن يغلب علي تشكيله حزب حاكم قوي, أو تتعدد الأحزاب المتنافسة فيه. وفي جميع تلك الحالات, يقصر عن تمثيل كل قوي المجتمع بكل مكوناتها. ولذلك, وفي الحالات التي يبدو فيها وكأن البرلمان هو الذي يضع الدستور, إنما هي تلك التي يكون فيها في شكل هيئة تأسيسية خالية من أي تحزبات أو انقسامات حزبية, تنطوي علي أقلية وأغلبية!, بأي معيار. والدستور الأمريكي أوضح نموذج لذلك. فقد وضع الدستور ممثلو الولايات الخمس والخمسين الذين حضروا المؤتمر أو الكونجرس, أي الهيئة التي أنيط بها وضع التشريعات للدولة الوليدة, وذلك في عام 1787 في فيلادليفيا, وكان حرصهم شديدا علي سلامة التمثيل الكامل لكل الولايات, وعلي نحو لا يخل بحقوق أي منهم. وأسهم في كتابة الدستور أفضل الفقهاء القانونيون الذين أرسلتهم ولاياتهم, والذين يقع علي رأسهم علي الإطلاق جيمس ماديسون الذي يعرف بأنه أبو الدستور الأمريكي. والسمة الجوهرية لهذا الكونجرس هي بعده الكامل عن أي تحزب, لسبب بسيط هو أن الأحزاب الأمريكية إنما تكونت فعليا بعد وضع الدستور. فالحزب الديمقراطي أنشئ حوالي عام 1850 بزعامة توماس جيفرسون. أما الحزب الجمهوري, فتأرجح كثيرا قبل أن يستقر في الخمسينيات من القرن نفسه. أما فرنسا, فقد عرفت ما يقرب من عشرين دستورا منذ الثورة عام 1789, والدستور الحالي الذي يعرف بدستور الجمهورية الخامسة- وضعه شارل ديجول عام1958 بناء علي النص الذي كتبه ميشيل دوبريه, وحل محل الدستور الذي سبقه في 1946 (دستور الجمهورية الرابعة). أما الدساتير الحالية في ألمانيا وإيطاليا واليابان (وهي دول المحور التي هزمت في الحرب العالمية الثانية), فقد خضعت في وضعها لضغوط قوي الحلفاء المنتصرة, فالدستور الألماني, الذي كان سائدا, قبل الحرب استند أساسا إلي ما يعرف بدستور جمهورية فيمار الذي وضعته الجمعية الوطنية الألمانية التي تشكلت خصيصا لكتابته, بعد أن وضع مسودته الأساسية سياسي ألماني ليبرالي شهير, هو هوجو بروس, واستمر عمل تلك الجمعية تسعة أشهر من يناير إلي أغسطس 1919 أما الدستور الإيطالي, فقد وضعته الجمعية التأسيسية الإيطالية التي أخذت علي عاتقها كتابة الدستور, بدءا من 25 يونيو 1946, وانتهت منه في 31 يناير 1948 وكان عليها كتابة دستور الجمهورية الإيطالية, التي تحل محل مملكة إيطاليا, التي هزمت في الحرب العالمية الثانية!, وهذه الجمعية تم تأسيسها من خلال اقتراع عام, تم في أول يونيو 1946 ولا يختلف ما حدث في اليابان كثيرا عما حدث في ألمانيا وإيطاليا, وأن كان بنكهة يابانية قوية, فبعد الحرب, وبعد التغلب علي المقاومة الشديدة من جانب الامبراطور ورجاله, كلف القائد الأمريكي ماك آرثر, مجموعة من الضباط الأمريكيين (من ذوي الدراية القانونية الواسعة) بكتابه مسودة الدستور الياباني, التي جاءت متسقة مع دستور الميجي السابق, ومستجيبة لمطالب اليابانيين, وعرضت للتصديق عليها باعتبارها لائحة لمراجعة الدستور الامبراطوري من جانب البرلمان في أكتوبر 1946 فإذا انتقلنا إلي الهند أكبر ديمقراطيات العالم, فسوف نعرف أن الجمعية التأسيسية للهند انتخبت في عام 1946 خصيصا لوضع الدستور ورأسها وأدار أعمالها بعض من أبرز القانونيين هناك, وقدمت أول مسودة للدستور في نوفمبر 1949 والمثير هنا, أن تلك الجمعية التأسيسية أعتبرت بعد ذلك برلمانا مؤقتا للهند, واستمرت قائمة حتي 1952 عندما تمت أول انتخابات وفقا للدستور الجديد. وأخيرا يمكن أن نشير إلي تجربة البرازيل بعد عهود طويلة من الحكم السلطوي- والتي تكونت فيها الجمعية التأسيسية من خلال انتخابات عامة في نوفمبر 1986 وانجزت مهمتها في وضع الدستور الديمقراطي الجديد بين فبراير 1987 وأوائل 1990 خلاصة القول, في ضوء هذه الأمثلة, هو أن الحل الوحيد للتخلص من عار هذه اللجنة, هو حلها تماما, وإعادة تشكيل لجنة صياغة الدستور المصري بما يتناسب مع جلال المهمة, ومع تاريخ مصر الدستوري, وثروتها الغنية من الكفاءات القانونية, ومع خبرات الديمقراطيات المستقرة في العالم! ولكن, هل يمتلك الإخوان وحزب الحرية والعدالة, وأنصارهم.. فضيلة الرجوع إلي الحق؟ هذا ما ننتظره ونأمله! المزيد من مقالات د:أسامة الغزالى حرب