لم تكن المرة الأولى ولا تكون الأخيرة التى تقتحم فيها القوات الإسرائيلية المسجد الأقصى وتعتدى عليه بشكل سافر وانتهاك لكل الأعراف الدينية والدولية تحت دعاوى واهية وأساطير وهمية بحثا عما يسمى هيكل سليمان المزعوم تحت المسجد. والواقع أن إسرائيل لم تكن لتتجرأ أو تستمر فى هذا العدوان المتواصل وانتهاك حرمة المسجد الذى يقدسه أكثر من مليار مسلم فى العالم لولا حالة الضعف والوهن والتفكك التى تعيشها الدول العربية, وصمت منظمة المؤتمر الإسلامى والمجتمع الدولي, وعدم اتخاذ رد فعل قوى وحازم لردع إسرائيل والمستوطنين عن هذه الأفعال المشينة التى تكرس حقيقة الأهداف الإسرائيلية المتواصلة فى تهويد القدس ومحو رمزية وقدسية المسجد الأقصى لدى المسلمين والفلسطينيين, والقضاء على أى آمال لديهم فى إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية. ولاشك أن العدوان الإسرائيلى على الأقصى يتجاوز مجرد إعادة بناء ما يسمى هيكل سليمان, حيث أثبتت الحفريات الإسرائيلية المتكررة أنه غير موجود بالفعل, إلى السيطرة الدائمة على المدينة ومحو هويتها العربية والإسلامية وتفريغ سكانها المقدسيين عبر كل أشكال الانتهاك والتقييد, والأخطر هو استفزاز الفلسطينيين لكى تندلع أعمال عنف ومواجهات تتخذها ذريعة للتهرب من مساعى إحياء عملية السلام أو التوصل إلى تسوية عادلة وشاملة لهذا الصراع التاريخى تعيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني, فالأخطر من وراء العدوان على الأقصى هو اختزال الصراع والقضية الفلسطينية بحيث يصبح الأمل هو مجرد وقف الانتهاكات, وهذا المنهج الاختزالى اتبعته الحكومة الإسرائيلية بشكل متواصل حيث تراجع الحديث عن التسوية الشاملة والانسحاب الإسرائيلى الكامل من الأراضى الفلسطينية المحتلة عام 1967 فى القدسالشرقية والضفة الغربيةوغزة, إلى مجرد الحديث عن انسحاب جزئى من بعض المناطق مثل غزة, ثم الانسحاب من بعض الشوارع, وهكذا سعت إلى وأد القضية الفلسطينية تدريجيا, حيث لم يعد هناك حديث عن عملية السلام أو التسوية, بل إن كل المحاولات السابقة وآخرها المساعى الأمريكية لاستئناف مفاوضات السلام, تحطمت جميعا, إما لعدم رغبة إدارة أوباما فى تحقيق إنجاز تاريخى على هذا المسار, كما حدث فى حالة البرنامج النووى الإيراني, وإما لحالة السيولة التى يعيشها العالم العربى نتيجة اندلاع الكثير من الأزمات والحروب الأهلية فى بعض دوله, وتصاعد أخطار الإرهاب والتطرف, وإما لاستمرار الانقسام الفلسطينى بين فتح وحماس, وفى ذات الوقت استمرت إسرائيل فى فرض سياسة الأمر الواقع فى التهويد وإقامة المستوطنات وحصار الشعب الفلسطينى والعدوان عليه وعلى مقدساته, دون أى رادع أو وازع. والحقيقة أنه برغم المرحلة الانتقالية الصعبة التى يمر بها العالم وما يشهده من صراعات وحروب, إلا أن القضية الفلسطينية ستظل هى قضية العرب الأولى وستظل إسرائيل هى العدو الاستراتيجى, الذى لا يجب أن نتغافل عنه, خاصة أن إسرائيل تحاول توظيف ورقة التطرف والإرهاب لكى تظهر أمام العالم أنها تحارب الإرهاب, بينما تمارس كل صور إرهاب الدولة ضد الفلسطينيين, كما أنها المستفيد الأول من حالة التدهور التى تمر بها المنطقة العربية بعد تفكك العديد من الجيوش العربية كما حدث فى العراق وسوريا, ولم تعد هناك قوى تخشى منها إسرائيل, وهذا ما دفعها للتمادى فى تحديها ورفضها لعملية السلام وانتهاكاتها المتواصلة ضد الشعب الفلسطينى ومقدساته. مواجهة العدوان الإسرائيلى على المسجد الأقصى يتطلب اتخاذ موقف صارم من جانب العرب والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامى برفض وإدانة هذه الأفعال الإجرامية التى تؤجج العنف وعدم الاستقرار, والأهم أن يكون فى إطار أشمل وأوسع يتضمن إعادة إحياء عملية السلام والتوصل إلى تسوية نهائية للقضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال الإسرائيلى للقدس الشرقية ورفع القيود عن المقدسيين, وذلك من خلال الضغط على الإدارة الأمريكية للتحرك بفاعلية وجدية للضغط على إسرائيل لتنفيذ التزاماتها والتوصل إلى تسوية شاملة. ورغم أن موازين القوى الآن ليست فى مصلحة الفلسطينيين, كما أن الظروف الإقليمية غير مواتية إلا أن التحرك الجماعى عبر الجامعة العربية أصبح مطلوبا بشدة لجعل القضية الفلسطينية على رأس الأولويات والتحديات التى تواجه العالم العربي, وتفعيل الجهود على مستوى الأممالمتحدة والأطراف الدولية لوقف الانتهاكات الإسرائيلية وضرورة إحياء عملية السلام. ومن المهم كشف الممارسات العدوانية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والمسجد الأقصى أمام المجتمع الدولى وتوثيق تلك الجرائم المتواصلة والتى ترقى إلى مستوى جرائم الحرب الدولية, وتقديمها للمحكمة الجنائية الدولية لمعاقبة مرتكبيها من الإسرائيليين, كذلك كشف زيف المزاعم الإسرائيلية بأنها دولة علمانية ديمقراطية, بينما هى دينية متشددة, حيث يمارس رجال الدين الإسرائيلى والمستوطنين أفعالهم العدوانية تحت رعاية وحماية الحكومة الإسرائيلية وجنودها المدججين بالأسلحة, وهو ما يشعل الصراع الدينى فى المنطقة, ويؤدى فى المقابل إلى تصاعد التيارات الإسلامية المتشددة التى تتخذ من العدوان الإسرائيلى ذريعة ومبررا لأفعالها واكتسابها الشرعية. الاكتفاء العربى فقط بالشجب والإدانة للعدوان الإسرائيليى على المسجد الأقصى لن يكون مجديا ولن يكون رادعا لمنع تكرار تلك الأعمال فى المستقبل, ما لم يصاحبه تحرك عربى جاد وفاعل على كل المستويات ويستشعر خطورة وأهداف النيات الإسرائيلية فى تمويت القضية الفلسطينية, وشغل الاهتمام الدولى والإقليمى عن القضية الأساسية وهى إنهاء احتلالها للأراضى الفلسطينية وهو المرض الحقيقى العضال الذى يجب معالجته. لمزيد من مقالات د . أحمد سيد أحمد