أعاد قرار البرلمان الأوكرانى بإحالة مشروع قانون يمنح المزيد من الحكم الذاتى لحكومتى منطقتى دونيتسك ولوجانسك الانفصاليتين إلى المحكمة الدستورية العليا تسليط الضوء مجددا على الأزمة الأوكرانية، والتى توارت مؤخرا عن الأنظار بفعل الانشغال الدولى بمتابعة تطورات الأزمة المالية اليونانية ومفاوضات الملف النووى الإيراني. ورغم توقعات أن يأتى القرار كخطوة أولى على طريق تنفيذ بنود اتفاق "مينسك -2" الموقع فى 12فبراير الماضى، وما يعنيه من بارقة أمل جديدة فى قرب كتابة نقطة النهاية للصراع. إلا أنه وعلى العكس تماما فقد جاء القرار وعلى ما يبدو ليشير إلى بدء فصل جديد من فصول المواجهة ما بين أطراف الأزمة فى الداخل والخارج. فعلى الصعيد الداخلى، أثارت التعديلات الإضافية التى قدمها الرئيس الأوكرانى بترو بوروشينكو تحت عنوان"النظام الخاص للحكم المحلى فى مقاطعتى دونيتسك ولوجانسك" على نص مشروع القانون قبل يوم من جلسة التصويت..أثارت الجدل حول توقيت إضافتها والمغزى منها، خاصة فى ظل تزامنها مع زيارة فيكتوريا نولاند مساعدة وزير الخارجية الأمريكى لشئون أوروبا وأوراسيا إلى كييف، بل وحضورها جلسة التصويت على إحالة القرار تحت قبة "الرادا". وفى إشارة واضحة على ارتباط زيارة نولاند بتوقيت إضافة التعديلات، ذكرت أوكسانا سيرويد نائب رئيس البرلمان فى صفحتها على موقع "فيسبوك" أن النواب الأوكرانيين يتعرضون لضغوط شديدة لإرغامهم على التصويت لصالح التعديلات الجديدة. وكتبت سيرويد:"فى هذه الساعات والدقائق تمارس ضغوط شديدة على النواب الشعبيين من جانب المجتمع الدولي، لكى تحصل جمهوريتا دونيستك ولوجانسك الشعبيتان على الوضع الخاص حسب دستورنا، وذلك بذريعة الالتزام باتفاقيات مينسك"، مضيفة أن"العالم وعلى ما يبدو بات متعبا ويريد الانتهاء من هذه القضية". واعتبرت سيرويد أن القانون بهذا الشكل قد يؤدى فى نهاية المطاف إلى إضفاء "الشرعية" على المتمردين وأن يصبح بمثابة "المسمار الأخير فى نعش التطلعات الأوروبية فى أوكرانيا"، وحتى "الدولة الأوكرانية نفسها". ومن جانبه، زاد الرئيس الأوكرانى بتروبوروشينكو نفسه من كم الجدل الدائر حول التعديلات الجديدة، وقال - فى كلمة ألقاها قبل مناقشة النواب المشروع وإحالته إلى المحكمة الدستورية- "لا يمكننا أن نخلق بأنفسنا حالة تجد فيها أوكرانيا نفسها وحيدة أمام المعتدى الروسي"، مشيرا فى الوقت ذاته إلى أنه يجب الوضع فى الاعتبار أن"العدوان لن يتوقف خلال شهر ولا خلال سنة. علينا أن نتعلم التعايش مع هذه الظروف". وأضاف بوروشينكو أن:"المشروع المقترح لا ينص على إقامة نظام فيدرالى أو ومنح منطقة دونباس وضعا خاصا. أوكرانيا كانت ولا تزال وستبقى دولة موحدة". وأكد أنه"لا يمكن تحقيق اللامركزية فى مجالات الدفاع والأمن الوطنى والسياسة الخارجية والرقابة على الحقوق والحريات الدستورية للمواطنين". جاء هذا فى الوقت الذى دافعت فيه فيكتوريا نولاند بدورها عن التعديلات الجديدة، وقالت للصحفيين إنه: لابد من توثيق "الوضع الخاص" لدونباس من الناحية القانونية كونه أحد بنود اتفاقيات مينسك التى وقعت عليها أوكرانيا، وهذا مهم من أجل استعادة السلام ووحدة الأراضى فى شرق أوكرانيا". وفى المقابل، أكد دينيس بوشيلين مفاوض جمهورية دونيتسك الشعبية أن مشروع تعديل الدستور الأوكرانى الذى قدمه بوروشينكو لا يتوافق مع اتفاقيات مينسك، وقال:"سنصر على وضع صيغ مفصلة للوضع الخاص وفى النص الأساسى لدستور أوكرانيا بالتحديد، وعلى تأكيد حقوق دونباس الخاصة فى الدستور. وقبل كل شيء على حق إقامة علاقات متساوية قائمة على الاتفاق مع سلطات كييف". ودعا بوشيلين نواب البرلمان الأوكرانى إلى عدم التصويت على التعديلات المقدمة، كما دعا بوروشينكو إلى سحب التعديلات وإرسالها إلى منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا وروسيا و"جمهوريتى دونيتسك ولوجانسك" للاتفاق عليها. ومن جهته، قال إيجور بلوتنيتسكى رئيس "جمهورية لوجانسك الشعبية"-المعلنة من طرف واحد- إن مشروع التعديلات فى الدستور الأوكرانى لا تمت بأى صلة مع تطبيق اتفاقيات مينسك. وأشار بلوتنيتسكى إلى أن بوروشينكو لم يخف ذلك، وأنه أكد بصراحة وعلانية على أن هذه التعديلات لا توفر أى وضع خاص لدونباس، مضيفا أنه:"ولذلك عبثا حملت فيكتوريا نولاند البسكويت إلى الرادا اليوم، لأن التصويت بالموافقة لن يكون فقط غير مساعدا على تسوية القضية، بل سيبعدنا عنها". وأكد"سنسعى إلى أن تدرج أوكرانيا فى نص الدستور الأساسى ضمانات الوضع الخاص، فى متنه وليس فى بنود عابرة". وفى موسكو، وصف ألكسى بوشكوف رئيس لجنة الشئون الدولية فى مجلس"الدوما" الروسى تصريحات نولاند بال"مضللة". وكتب على صفحته فى موقع "تويتر":"تعديلات بوروشينكو على مشروع الدستور بعيدة عن اتفاقات مينسك ولا تتوافق إلا مع الأوهام السياسية لبوروشينكو نفسه". وبعيدا عن ردود فعل أطراف الصراع المتباينة فى الداخل والخارج والاتهامات المتبادلة بينهم حول المسئولية عن إفشال الاتفاق عبر الالتفاف حوله. فإنه يبدو أن الأزمة الحقيقية ليست تلك المتعلقة بمناورة "الوضع الخاص" الدستورية التى يجريها بوروشينكو بمشاركة مختلف أطراف الأزمة، بل هى تلك الكامنة فيما كشفت عنه التعديلات الجديدة صراحة من تسليم كييف كافة أوراق ملف الصراع إلى الخارج أو بمعنى أخر ارتضاء تسوية الصراع وفق مبدأ "بيع الأرض مقابل المال" تجنبا للمزيد من الخسائر العسكرية والاقتصادية الفادحة. وقد دلل على ذلك إقرار البرلمان فى نفس الجلسة على تعديل كافة نصوص قوانين التشريعات المطلوبة من جانب صندوق النقد الدولى فى النظام المصرفى وقطاع الطاقة من أجل الحصول على شريحة ثانية من المساعدات المالية المقدرة بقيمة 7٫1مليار دولار، وفقا لخطة الإصلاحات التشريعية التى وافق بموجبها الصندوق فى مارس الماضى على برنامج إقراض بقيمة إجمالية 5،17مليار دولار يتم منحها لكييف على مدى أربع سنوات لإبعاد اقتصادها عن حافة الإفلاس. إلا أنه ومن جانب أخر فإن المعضلة التى تواجه بوروشينكو هى ارتباط ضمان استمرار تدفق مساعدات الغرب ارتباطا وثيقا باستمرار المعارك، من ثم ضرورة إتباع سياسة "مسك العصا من المنتصف" إرضاء لمواقف بعض الأحزاب المشكلة للائتلاف الحكومى بزعامة رئيس الوزراء أرسينى ياتسينيوك حاملة لواء"تحرير الأرض". كذلك تماشيا مع مصلحة بعض أطراف الأزمة فى الخارج، خاصة الولاياتالمتحدة التى ترى فى الصراع بوابة مفتوحة يمكن الاستمرار فى جر روسيا عبرها نحو حرب استنزاف اقتصاديا وعسكريا، من ثم فرصة زيادة التواجد العسكرى الغربى فى منطقة أوراسيا بحجة حماية الدول الحليفة فى ظل استمرار المخاوف تجاه موسكو من تكرار حادثة ضم القرم. ومن أجل المضى قدما فى الخطة فإن بوروشينكو بحاجة إلى أن يصوت البرلمان على المشروع فى قراءتين بعد وصول رد المحكمة الدستورية أواخر أغسطس المقبل، حيث المطلوب أن ينال فى القراءة الأولى ما لا يقل عن 226صوتا، وفى القراءة الثانية على 300صوت على الأقل. هذا فى الوقت الذى تبقى فيه الأحداث رهينة رد فعل الشارع على الضغوط الاقتصادية المتزايدة، فى ظل دعوات العودة إلى المظاهرات والاحتجاجات مجددا التى أطلقتها مؤخرا حركة "سبيلنا سبرافا" اليمينية المتطرفة -إحدى القوى المشاركة فى الإطاحة بالرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش- عبر موقع التواصل الاجتماعى "فيسبوك" للاستعداد لما وصفته ب"ثورة جديدة"، بعدما شنت هجوما مسلحا على الشرطة فى مدينة موكاتشيفو غرب أوكرانيا.