إقبال الطلاب على ورش مراكز الموهوبين والتعلم الذكي بإدارة شرق الإسكندرية    تراجع أسعار الذهب في ختام تعاملات الأربعاء 26 يونيو    تقرير عبري: إسرائيل مستعدة لمحاولة إضافية من أجل التوصل إلى تسوية في الجبهة الشمالية    انسحاب المرشح قاضي زاده هاشمي من الانتخابات الإيرانية    جورجيا تضرب البرتغال بالهدف الثاني في يورو 2024    بالأسماء.. مصرع وإصابة 9 أشخاص إثر اصطدام سيارتين بالطريق الزراعى بالبحيرة    السيطرة على حريق في محول كهرباء بقنا    كريم عبد العزيز يعلق على ظهوره برفقة الملاكمين جوشوا ودوبوا: الخناقة هنا بمستقبل    مسئول أمريكى يؤكد بأن الجميع لا يريد حربا بين إسرائيل وحزب الله    5 صور ترصد زحام طلاب الثانوية العامة داخل قاعات مكتبة الإسكندرية    جولر يقود تشكيل تركيا ضد التشيك فى يورو 2024    التعليم تعلن نتيجة امتحانات الدور الأول للطلاب المصريين بالخارج    قرار جديد من الداخلية بشأن التسجيل بدفعة معاوني الأمن الجديدة للذكور    تفاصيل عرض برشلونة لخطف جوهرة الدوري الإسباني    على أنغام أغنية "ستو أنا".. أحمد سعد يحتفل مع نيكول سابا بعيد ميلادها رفقة زوجها    "يا دمعي"، أغنية جديدة ل رامي جمال بتصميم كليب مختلف (فيديو)    هل يجوز الاستدانة من أجل الترف؟.. أمين الفتوى يجيب    حكم استرداد تكاليف الخطوبة عند فسخها.. أمين الفتوى يوضح بالفيديو    سماجة وثقل دم.. خالد الجندي يعلق على برامج المقالب - فيديو    بالفيديو.. أمين الفتوى: العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة عليها أجر وثواب    في اليوم العالمي لمكافحة المخدرات- هل الأدوية النفسية تسبب الإدمان؟    القوات المسلحة تنظم مؤتمراً طبياً بعنوان "اليوم العلمى للجينوم "    صندوق النقد الدولي يقر بتمويل 12.8 مليون دولار للرأس الأخضر    «قطاع الآثار»: فيديو قصر البارون عار تمامًا من الصحة    أزمة جديدة تواجه شيرين عبد الوهاب بعد تسريب 'كل الحاجات'    لماذا يقلق الغرب من شراكة روسيا مع كوريا الشمالية؟ أستاذ أمن قومي يوضح    الرئيس السيسي يوقع قوانين بربط الحساب الختامي لموازنة عدد من الهيئات والصناديق    وزير الرى يدشن فى جنوب السودان مشروع أعمال التطهيرات بمجرى بحر الغزال    "شباب النواب" توصى بصيانة ملاعب النجيل الصناعي في مختلف محافظات الجمهورية    بشرى لطلاب الثانوية العامة.. مكتبة مصر العامة ببنها تفتح أبوابها خلال انقطاع الكهرباء (تفاصيل)    مساعد وزير البيئة: حجم المخلفات المنزلية يبلغ نحو 25 مليون طن سنويا    كيف يؤثر ارتفاع درجات الحرارة على الرحلات الجوية؟.. عطَّل آلاف الطائرات    بتكلفة 250 مليون جنيه.. رئيس جامعة القاهرة يفتتح تطوير مستشفي أبو الريش المنيرة ضمن مشروع تطوير قصر العيني    مهرجان فرق الأقاليم المسرحية.. عرض «أحداث لا تمت للواقع بصلة» و«الحضيض» الليلة    منتخب اليد يتوجه إلى كرواتيا 4 يوليو استعدادا لأولمبياد باريس    خبير شئون دولية: فرنسا الابن البكر للكنيسة الكاثوليكية    «مياه كفر الشيخ» تعلن فتح باب التدريب الصيفي لطلاب الجامعات والمعاهد    كيف يؤدي المريض الصلاة؟    بيراميدز يترقب مصير أحمد حجازي مع اتحاد جدة    المشدد 15 سنة لصاحب مستودع لاتهامه بقتل شخص بسبب مشادة كلامية فى سوهاج    اخوات للأبد.. المصري والإسماعيلي يرفعان شعار الروح الرياضية قبل ديربي القناة    «التمريض»: «محمود» تترأس اجتماع لجنة التدريب بالبورد العربي (تفاصيل)    الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي: صرف معاشات شهر يوليو اعتبارا من الخميس المقبل    نجم ميلان الإيطالي يرفض عرض الهلال السعودي ويتمسك بالبقاء في أوروبا    وزيرة البيئة تتابع حادث شحوط مركب سفاري بمرسى علم    الصحة: استجابة 700 مدمن للعلاج باستخدام برنامج العلاج ببدائل الأفيونات    الإعدام لثلاثة متهمين بقتل شخص لسرقته بالإكراه في سوهاج    شديد الحرارة رطب نهارًا.. الأرصاد تكشف عن حالة الطقس غدا الخميس    لجنة القيد بالبورصة توافق على الشطب الإجبارى لشركة جينيال تورز    ختام دورة "فلتتأصل فينا" للآباء الكهنة بمعهد الرعاية    تعيين 4 أعضاء جدد في غرفة السلع والعاديات السياحية    المنظمات الأهلية الفلسطينية: الاحتلال يمارس جرائم حرب ضد الإنسانية في قطاع غزة    فحص 764 مواطنا فى قافلة طبية مجانية بقرى بنجر السكر غرب الإسكندرية    هل يجوز الرجوع بعد الطلاق الثالث دون محلل؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    الأكاديمية الطبية تفتح باب التسجيل في برامج الماجستير والدكتوراة بالمعاهد العسكرية    أحمد فتحي: انسحاب الزمالك أمام الأهلي لا يحقق العدالة لبيراميدز    «حلو بس فيه تريكات».. ردود فعل طلاب الثانوية الأزهرية بقنا عقب امتحان النحو    الجريدة الكويتية: هجمات من شتى الاتجاهات على إسرائيل إذا شنت حربا شاملة على حزب الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن السفور والحجاب
نشر في الأهرام اليومي يوم 10 - 06 - 2015

ليس من المبالغة القول إن أول ظهور لقضية السفور كان مع تأسيس محمد علي (1769-1849) الدولة المصرية الحديثة، وما ارتبط بها من إرسال البعثات إلي أوروبا عموما، وفرنسا خصيصًا، وذلك لفهم مبادئ بناء الدولة الحديثة التي كانت فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية نموذجا لها. وقد شاءت الأقدار أن يكون الشاب رفاعة الطهطاوي (1801- 1873) إماما للبعثة، وقد حرص علي أن يكتب عما يفيد ويرتقي بعقول أبناء قومه بعد عودته من البعثة، فيكتب عن كل جديد رآه في باريس، محاولا، علي نحو ضمني، أن ينقل أسرار تقدم فرنسا إلي قومه، وعلي رأسهم الوالي محمد علي، ولي النعم الذي أنشأ مطبعة بولاق التي طبعت كتاب رفاعة تخليص الإبريز في تلخيص باريز سنة 1834. ولا يكاد رفاعة ينسي في كتابه مظهرا من مظاهر التقدم التي رآها في باريس، ابتداء من نظام الحكم الذي يحقق العدل، مفتونا بالدستور الفرنسي الصادر سنة 1830 وتعديلاته التي ترجمها رفاعة، مرورا بصروح العلوم الطبيعية والنظرية، فضلا عن الآداب والفنون، وأخيرا الحياة الاجتماعية التي تبدأ من حياة الناس الذين يتساوون في الحقوق والواجبات، ولا يتوقفون عن طلب العدل الذي هو أساس العمران، ولا ينكرون المساواة بين الرجال والنساء من حيث الحقوق والواجبات المصونة بالقوانين التي يحددها الدستور، مؤكدا الإنصاف في المعاملة، بحيث لا يجور الحاكم علي أي إنسان، ويصبح من حق كل إنسان أن يتولي ما شاء من مناصب الدولة، ما دام يملك ما يؤهله لذلك.
وكان من الطبيعي أن تلفت المرأة الفرنسية انتباه رفاعة الطهطاوي، سواء من حيث المناصب التي تحتلها، والوظائف التي تؤديها في المجتمع، أو الطريقة التي يعاملها بها الرجال. وأضيف إلي كل ذلك سفورها واختلاطها بالرجال في مجالات الحياة الاجتماعية المختلفة. وظني أن سفور المرأة الفرنسية وملبسها قد فرض نفسه علي عقل رفاعة، خصوصا أنه عاش عالم هذه المرأة الفرنسية، خمس سنوات. وكان علي رفاعة أن يقبل هذا الحضور المتعين للمرأة أو يرفضه. ونعرف من كتاب رفاعة أنه اتخذ مبدأ التحسين والتقبيح العقليين عند المعتزلة أساسا لقبول أو رفض ما رآه في فرنسا، ومنه زي المرأة الفرنسية وسفورها. وقد أعمل رفاعة عقله في سفور المرأة، فرأي أنه شيء مقبول، ما ظل الأصل في ملبسها وسلوكها هو الحشمة لا الفتنة. ولذلك قال: إن وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن، بل منشأ ذلك التربية الجيدة أو الخسيسة. وعلي أساس من هذه القاعدة العقلية، لا النقلية السلفية، قبل رفاعة مبدأ سفور المرأة، ولم ير فيه حرجا، ما ظل الأصل فيما تلبسه المرأة هو نفسه ما يحكم سلوكها ومنشأها: التربية الجيدة والعفة التي يؤكدها المسلك والملبس معا. ولم يكن المقصود من هذه النتيجة المرأة الفرنسية فحسب، بل المرأة في العموم، ذلك لأن السياق العام كان بمنزلة انقطاع عن النزعة العرقية الشائعة في التراث السلفي الذي خرج عليه، وتواصلا مع النزعة العقلانية الإنسانية التي انطوي عليها تراثه، وذلك منذ أن احتفي هذا التراث بقوله تعالي: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا.... (الحجرات: 13)
-2- إذا كان جيل رفاعة الطهطاوي هو الذي وصل معني السفور بنزعة عقلانية إنسانية، فإن جيل ثورة 1919 هو الذي بدأ من حيث انتهي رفاعة، معلنا بوضوح انحيازه إلي سفور المرأة، وكان ذلك ضمن سعي هذا الجيل إلي تحرير الوطن من المحتل الأجنبي، وتحرير وعي الإنسان المصري (رجلا وامرأة) من قيود التخلف المقترنة بالفكر السلفي الذي سعي إلي تثبيت المفاهيم المتوارثة من المرأة- العورة، والمرأة- الشيطان، والمرأة- العبدة، وكلها مفاهيم شاعت في الميراث السلفي المعادي للمرأة، وظلت متواصلة، إلي أن تمرد عليها جيل ثورة 1919، ابتداء من نهاية الحرب العالمية الأولي، وظهور صحيفة السفور الأسبوعية سنة 1915 التي أنشأها عبد الحميد حمدي، وشارك في كتابتها الأخوان مصطفي وعلي عبد الرازق ومحمد حسين هيكل وطه حسين. وقد صدر العدد الأول من الجريدة في يوم الجمعة الحادي والعشرين من مايو عام 1915، وجاءت أعداد الجريدة تحمل أصداء الثورة التي كان يموج بها المجتمع علي كل المستويات. ولذلك يقوم عبد الحميد حمدي بتوسيع معني السفور ليجعله أبعد من مسألة خلع المرأة لحجابها، ولذلك يقول: للسفور معني أشمل مما يتبادر إلي الذهن عند سماع هذه الكلمة التي جرت بها أقلام الباحثين في مسألة المرأة المصرية. ليست المرأة وحدها هي المحجبة في مصر، ولكنها محجبة نزعاتنا وفضائلنا وكفاءاتنا ومعارفنا وأمانينا. كل شيء عندنا يبدو علي غير حقيقته، فنحن أمة محجبة حقيقتها بادية منها ظواهر كاذبة، لا تتغير مع ما فطرت عليه الأمة في شيء. ولذلك تخوض الجريدة معركتها بضراوة ضد السفور العام والسفور الخاص. وتتصدي للسلفيين الجامدين الذين اتهموا دعاة السفور بهدم الدين، ولكن دعاة السفور لم يأبهوا بذلك، فقد كانوا يعلمون أن حجج دعاة الحجاب مجرد اجتهاد يمكن نقضه باجتهاد مماثل. وقد أكد مصطفي عبد الرازق، في العدد الرابع، أنه إذا كان صاحب هذه الجريدة وأصدقاؤه يغتبطون بما لقي السفور من حسن الوفادة ومن التشجيع بين أنصار الرقي وشيعة الإصلاح في هذا البلد شبانا وكهولا، فإنهم أشد اغتباطا بما وجه إليهم من النقد المبني علي الإخلاص والرغبة في تمحيص النصيحة. وإنا لنشكر أولئك الناظرين نظرة العطف والرضا لهذه الصحيفة الوليدة وهي في مهدها. وهم أولي الناس بأن يحوطوا برعايتهم الحكيمة نهضة شابة مملوءة بالحماسة والأمل. ويمضي مصطفي عبد الرازق مؤكدا أن هدف هذه الجريدة ليس هو تمزيق البرقع عن وجه المرأة فحسب، فالهدف الأعلي لهذه الصحيفة هو أن نكون مظهر التقدم الفكري في هذا البلد، ومضمارا لكل دعوة حرة صالحة.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون مصطفي عبد الرازق شقيق علي عبد الرازق- من مؤسسي السفور- الذي أقام الدنيا ولم يقعدها حين كشف ما وراء دعوة الخلافة من أوهام، مؤكدا أن الخلافة ليست ركنا من أركان الإسلام الذي ترك حرية اختيار نظام الحكم للمسلمين. وما فعله علي عبد الرازق فعله صديقه طه حسين في دعوته إلي تحرير دراسة الأدب العربي من الأوهام الدينية والسياسية، مؤكدا أن الكثرة الكاثرة من الشعر الجاهلي منحولة وليست أصيلة. وقد صدر كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي سنة 1926، بعد أشهر معدودة من كتاب زميله علي عبد الرازق سنة 1925. وما كان الاثنان يجرؤان علي كتابة ما كتبا، إلا في مدي أمواج المد التي صنعتها ثورة 1919 التي حطمت قيود التقاليد الجامدة لحجاب العقل والوجه، وقرنت بين الدعوة لسفور المرأة فعليا وسفور الأذهان كلها رمزيا.
وكان أول من فعل ذلك هدي شعراوي التي قادت مظاهرات المرأة المصرية في مارس 1919، ضد الاستعمار البريطاني، ورفعت ما بقي من الحجاب، وهو ما فعلته هي وسيزا نبراوي ونبوية موسي خلال حضور المؤتمر النسائي العالمي الذي أصبحت مصر عضوة فيه منذ ذلك العام الذي صدر فيه دستور 1923 الذي لا يمايز بين المرأة التي أصبحت سافرة بتشجيع من سعد زغلول زعيم الأمة - والرجل الذي أخذ يتقبل فكرة سفور المرأة التي تظاهرت إلي جانبه، في مظاهرات 1919 التي حررت الرجل والمرأة معا. ولذلك لم يكن من المصادفة أن تظهر صفية زغلول (أم المصريين)- في عام صدور الدستور- سافرة الوجه والرأس في مجلة اللطائف المصورة. وكان ذلك البداية التي ما لبثت أن اتسعت سنة 1925 مع إنشاء اللجنة السعدية للسيدات، ثم ازدادت اتساعا في الثلاثينيات التي لم ترحل وندخل في الأربعينيات إلا بعد أن استقرت مظاهر السفور الذي أصبح قضية قديمة، تجاوزتها المرأة المصرية لتطالب بحقها في الانتخاب والترشح للبرلمان. وفي عام 1944 يولد الحزب النسائي الوطني المصري علي أيدي مجموعة من رائدات تحرير المرأة لتفتح أبواب البرلمان التي ظلت مغلقة أمام المرأة، وذلك بعد أن تجاوز السفور الطبقة الوسطي التي نقلت عدوي السفور إلي بقية المجتمع، فتصدرت صفحات مجلات هذه الحقبة صور ابنة الشيخ مصطفي ياسين (قارئ القصر) وزوجه بدون حجاب، كذلك تظهر زوجة الشيخ أبو العينين شعيشع خليفة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد. وفي تواصل سياق السفور ظهرت أسرة الشيخ الباقوري، ومحمد عبد الله ماضي والدكتور محمد البهي وغيرهم كثر. وكان ذلك في سياق المد التحرري للطبقة الوسطي المصرية التي أنجبت سيزا نبراوي ودرية شفيق ولطيفة الزيات التي انتخبت -وهي طالبة- أمينا عاما للجنة الوطنية للطلبة والعمال التي قادت حركة الشعب المصري ضد الاحتلال سنة 1946، وأخيرا سهير القلماوي (1911-1997) أول فتاة تلتحق بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) سنة 1929 وسعاد ماهر (1917-1996) التي حملت عبء إنشاء أول كلية للآثار في مصر، وأمينة السعيد (1910-1995) التي كانت أول مصرية تتولي تحرير مجلة نسائية (حواء) وعائشة راتب (1928-2013) من أوائل الحقوقيات والناشطات في العمل السياسي، إلي جانب دورها الجامعي. وأضف إلي ذلك رائدات الفن مثل أمينة رزق (1910- 2003) التي كانت رائدة للمرأة في فن التمثيل، وأم كلثوم (1898-1975) سيدة الغناء العربي إلي اليوم. وكن جميعا سافرات. وحتي عندما بدأ الهجوم علي السفور، تصدين له بميراث ثورة 1919.
-3- وعندما جاءت ثورة 23 يوليو 1952 كان من الطبيعي أن تتبني قضية السفور للمرأة المصرية وللوعي الاجتماعي علي السواء، فقد كان الضباط الذين قاموا بالثورة هم أبناء الطبقة المتوسطة التي نجحت طليعتها في تحقيق مطلب السفور وإشاعته بين نساء المجتمع المصري وفتياته، وذلك بوصفه مطلبا تنطوي عليه حركة التحرر الوطني بوجه عام. ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يكتب إحسان عبد القدوس عن نموذج الفتاة الصاعدة مع حركة التحرر الوطني في روايته أنا حرة (1954) ولطيفة الزيات في روايتها الباب المفتوح (1960). وبالفعل يفتح البرلمان المصري أبوابه أمام المرأة المصرية التي تصل إلي مرتبة وزيرة للمرة الأولي، وتسطع أسماء المرأة المصرية المتحررة من قيود التقاليد البالية في مجالات الفنون والآداب والعلوم، وقبل أن نسمع عن أحمد زويل في السنوات اللاحقة سمعنا عن سميرة موسي عالمة الذرة المصرية التي طالتها يد الغدر في الولايات المتحدة. وانفتحت أحلام الوعي المصرية علي ما كتبه صلاح جاهين، وغناه عبد الحليم حافظ ولحنه كمال الطويل عن:
صناعة كبري.. ملاعب خضرا
تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا
في كل قرية عربية.
ولم يكن أحد في هذا العالم الواعد من صعود الدولة الوطنية المدنية يفكر في التراجع عن السفور، خصوصا بعد أن أصبح الحجاب ذكري من ذكريات الأجيال التي تم تجاوزها، وبارك سفور الأجيال الصاعدة مشايخ أزهر يمثلون العقلانية المستنيرة مثل الشيخ محمود شلتوت (1893-1963) الذي أفتي أن السفور أو الحجاب مسألة مرتبطة بالبيئة (الفتاوي) والشيخ عبد المتعال الصعيدي (1894-1966) الذي ذهب إلي أن خلاصة حكم الإسلام في الحجاب والنقاب أن يترك أمرهما للعرف والعادة، وما يرضاه كل من الرجل والمرأة علي وجه يصونهما من الفساد ويحفظ ما له عليهما من حقوق (الحجاب في الإسلام)، مقال أعادت نشره مجلة عالم الكتاب (مايو 2015).
هكذا دخلتُ جامعة القاهرة طالبا، وسرت من ميدان الجيزة إلي كلية الآداب، عبر شارع الجامعة، وكان ذلك في اليوم الأول في العام الجامعي الذي يوافق أول سبتمبر 1961، وكنا في الصباح، وطلاب وطالبات كليات جامعة القاهرة يسيرون معا في نشاط وبهجة دون تمييز أو حرج. وما أزال أذكر هذا الصباح الذي كنت أمضي فيه حالما بمستقبل أصبح فيه مثل طه حسين، وأتطلع إلي زميلاتي وزملائي، وهم يندفعون في ثقة، فقد كان الصباح مشرقا، والأشجار تحول بيننا وحرارة الشمس، وطول طريق الجامعة لم أر حجابا واحدا.
-4- عندما حدثت كارثة 1967 كان حدوثها بسبب جرثومة داخلية، انطوت عليها بنية الدولة التسلطية الوطنية قومية التوجه التي قادها عبد الناصر بطريقة لم تخل من نزعة ديكتاتورية. ولذلك دخل عبد الناصر حرب 1967 وهو يجهل نقاط الضعف التي كانت سبب هزيمته. ولذلك قضي السنوات الثلاث الباقية من حياته، وهو يعمل جاهدا علي إعادة بناء الجيش المصري ليكون قادرا علي حرب التحرير، وذلك في موازاة إكمال بناء السد العالي الذي انتهي بناؤه بالفعل قبل وفاته. ولكن السقوط المدوي لدولته أغري البعض بإرجاع الهزيمة إلي بعدنا عن الله. ولذلك سجد الشيخ محمد متولي الشعراوي لله شكرا عندما بلغه خبر الهزيمة، واستعدت دولة متربصة أن تستبدل بالمشروع المدني للدولة الوطنية القومية لعبد الناصر مشروع دولة دينية أو شبه دينية علي الأقل. وهو طموح دعمه قيام الجمهورية الإسلامية في إيران 1979. وحتي قبل أن تقوم الجمهورية الإسلامية في إيران، قام السادات بالتحالف مع الإخوان المسلمين وغيرهم من جماعات التأسلم السياسي في مواجهة الناصريين والقوميين والشيوعيين وحتي الليبراليين، فكانت النتيجة استبدال خطاب ديني أقرب إلي السلفية بخطاب الاستنارة المدني الذي كان سائدا طوال زمن عبد الناصر. وبدأ الحجاب يعود شيئا فشيئا مع تصاعد مد ما أطلق عليه الصحوة الإسلامية. وهي صحوة تجاوبت مع الرسائل التي كانت تبثها الأجهزة الإيديولوجية لدولة السادات عن دولة العلم والإيمان وأخلاق القرية وكبير العائلة المصرية الذي أسلم مفاتيح الجامعة المصرية إلي الإخوان الذين انتشروا فيها وأخونوا الكثير من طلابها وطالباتها، أو أخونوهم بنشر الأزياء الشرعية التي تعود بهم إلي جنان الإسلام ونوره الذي هداهم إلي حرب أكتوبر 1973، التي حاربت فيها الملائكة عن الجند بما حقق لهم النصر علي أعدائهم الكفار في أكتوبر 1973، الأمر الذي فتح السبيل للجماعة الإسلامية في جامعة القاهرة أن تسيطر علي اتحاد الطلاب تماما سنة 1976، وتتولي منع الحفلات الغنائية وأي نشاط فني بحجة الخروج علي تعاليم الدين، وذلك في موازاة نشر الحجاب بين الطالبات بطرائق مغوية، كي يصبح انتشاره علامة علي صعود جماعات التأسلم السياسي في الجامعة وغير الجامعة. وشيئا فشيئا، بدأ الحجاب يشيع مع الزي الإسلامي الذى كانت توزعه جماعة الإخوان علي طالبات الجامعة مجانا، وأغلبهن قادم من قري محافظة الجيزة الفقيرة. وكانت عمليات تجنيد الطلبة والطالبات تجري علي قدم وساق، فتتكاثر أعداد الطلبة الملتحين وأعداد الطالبات المحجبات معا. وقيل للجميع إن الحجاب فريضة إسلامية، وإن تاركة الحجاب آثمة إثما كبيرا.
لكن من الحق القول إنه في مواجهة الحملات التديينية وقفت جماعات مدنية معارضة، ظلت فتياتها سافرات، مؤمنات بأن الإيمان هو ما وقر في القلب، وأن عفة المرأة وتدينها لا يمكن اختزالهما في قطعة قماش، وكان علي هؤلاء الطالبات أن يتحملن ما كن يجدن من تقريع وإغواء في عمليات التديين المسرفة التي أضافت إليها الجماعات السلفية حضورا. وأخيرا، كنوع من المقاومة لعمليات التديين تقدم عدد من المثقفين بمناقشة حقيقة الحجاب وحجية الحديث الداعم له. وهكذا أصدر المستشار محمد سعيد العشماوي كتابا بهذا العنوان سنة 1993 (كان في الأصل مقالات في مجلة روزاليوسف) يؤكد فيه: أن الحجاب يعني وضع ساتر معين، وهو في القرآن استخدم للإشارة إلي الفصل بين نساء النبي والمؤمنين. كما أن الخمار- وقت التنزيل- كان غطاء للرأس، ترسل النساء أطرافه علي الظهر والأوجب إسدال الأطراف علي الصدر، سترا للصدر. يضاف إلي ذلك أن حديث النبي، صلي الله عليه وسلم، عما أطلق عليه- حديثا- الحجاب حديث آحاد، ليس بقوة الأحاديث الصحيحة في التشريع، ولذلك يؤخذ علي أنه أمر وقتي، مرتبط بظرف عصره وبيئته، أما الحكم الدائم فهو الاحتشام وعدم التبرج.
ولم يقنع كلام العشماوي الإمام سيد طنطاوي شيخ جامع الأزهر، رحمه الله، فردّ قائلا بأن الحجاب فريضة، وأن أحاديث الآحاد يؤخذ بها. ولم يختلف الشيخ طنطاوي- رحمه الله- فيما عدا ذلك جوهريا.
لكن يبقي أن المستشار محمد سعيد العشماوي اجتهد اجتهادا يثاب عليه، وإن أخطأ، فهذا هو الأصل، ورأي الشيخ سيد طنطاوي ينطبق عليه صفة الاجتهاد القابل للخطأ. الطريف أن الأستاذ جمال البنا- شقيق حسن البنا- يأخذ من الحجاب موقفا يشبه موقف المستشار محمد سعيد العشماوي الذي لا يختلف اجتهاده في النهاية- عما انتهي إليه اجتهاد الشيخ محمود شلتوت وعبد المتعال الصعيدي، أو حتي الدكتور محمود زقزوق الذي يري أن الإسلام لا ينص علي زي بعينه، والأصل الأهم هو العفة والاحتشام.
وما دمنا نعرف أنه لا سلطة دينية في الإسلام، وأنه لا إكراه في الدين بشكل مباشر أو غير مباشر، وأن كل الآراء داخلة في باب الاجتهاد، فالمسلم العاقل هو من يعمل فكره في كل اجتهاد، ويأخذ بما يستريح له عقله. لكن لو رددنا خاتمة هذا المقال علي أوله، وجدنا أن قضية السفور والحجاب هي قضية تجاوز الدين بمعناه الحرفي وتغدو قضية ثقافية واجتماعية وسياسية في آن، والخلاف حولها متروك للعقول النيرة والعقلانية السمحة التي تبعدنا عن تقليد غيرنا أو تصديق كل ما يقال لنا. فليلجأ كل منا إلي عقله الذي سوف يؤدي به إلي الأصلح، بعيدا عن تخويف هذا، أو إيهام ذاك، فالأصل فيما نقبل أو نرفض هو العقل الذي هو حجة الله علي خلقه مع نص صحيح مباشر لا يحتاج إلي تأويل.
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.