لا تتوقف الحضارة اليابانية عن ادهاشنا، ليس فقط على صعيد التقدم العلمي والتكنولوجي، ولكن أيضا على المستوى الفني والروحاني. في لقاء الشارقة الذي انعقد الاسبوع الماضي موازيا لبينالي الشارقة الثانى عشر، أثار العمل الفني الذي قدمه الياباني تارو شينودا اعجاب الحضور، حيث قدم عملا بعنوان «كارسناسوي» وهي فلسفة الحديقة اليابانية الجافة التي تعود إلى خمسة قرون مضت والتي يتم فيها تصوير الطبيعة من أنهار وبحيرات وجبال وصخور وأشجار لتعكس فكرة الخلود. في هذا الحوار يقدم الفنان الياباني عمله الذي اعتمد فيه على الطبيعة البيئية في امارة الشارقة من حصي وصخور وحجارة، وحين استوقفه مشهد الصحراء وحركة الرمال التي تشكلها الرياح، قام بعمل حديقته اليابانية المعاصرة معتمدا على حركة آلية ابتدعها لحفرتين صغيرتين تتسعان وتكبران تدريجيا خلال الثلاثة أشهر التي يقدم فيها العمل المركب خلال فترة البينالي (5 مارس-5 يونيو). تارو شينودا من مواليد طوكيو 1964، درس الفن بعد أن درس البستنة التقليدية اليابانية، وشارك في العديد من المعارض في بوسطن ولوس انجلوس ومتحف هيروشيما للفن المعاصر وتأثر بالفلسفة التقشفية التي تميز الثقافة اليابانية. -تشارك في بينالي الشارقة بعمل مركب مستلهم من حديقة العشب الجاف التقليدية المعروفة في اليابان وبمائة عمل من الرسم، هل كانت تلك الدراسة التحضيرية قبل تنفيذ العمل ؟ -الرسم لا علاقة له بالعمل المركب فهما عالمان منفصلان، قمت بعمل الرسوم العام الماضي على مدى مائة يوم، وكانت بالنسبة لي مثل دراسات أقوم بها لنفسي حول موضوع الحديقة اليابانية، وهو موضوع شغلني منذ زمن. فمن زاوية نظر الفن المعاصر، يسبق مفهوم الحديقة اليابانية وما تمثله من فلسفة تقشفية وجنوح إلى البساطة الشديدة والتجريد مفاهيم الفن المعاصر بحوالي 500 عام، وكانت هذه الحدائق قديما ينشئها الرهبان. لدينا الكثير منها في مدينتي، أرى أن للحدائق حياة، وكان المثير بالنسبة لي في الموضوع أنك لا يمكنك أن تعرف الصورة الأصلية بعد مرور مئات السنين وتحولات الطبيعة مثل موت بعض الاشجار والنباتات، فهناك أشجار اختفت وأخرى حلت محلها ولم يكن من الممكن الرجوع لأصل الأشياء لذا قمت بالبحث في الفلسفة التي تكمن وراء الحدائق ورسمت المائة رسم الذي تشيرين إليها. ثم بالصدفة عرضت علي اونجي جو قيّمة بينالي الشارقة أن أشارك بعمل للبينالي فكانت فرصة بالنسبة لي لأعمل على فكرة الحدائق اليابانية التي راودتني طويلا. وحين دعيت إلى لقاء الشارقة في العام الماضي قمت بجولة في الطبيعة وذهبت في الصحراء وكان مشهد التلال والشمس مفاجأة كبيرة بالنسبة لي، وجذبتني حركة الرمال حين تتأثر بالرياح فيتغير المشهد تماما، وحين عدت إلى طوكيو كنت أفكر كيف أقدم عملا تجريديا يتناسب مع اسلوبي الفني وفي نفس الوقت أستطيع من خلاله أن أتلمس طبيعة البيئة هنا في الشارقة وكيف ادمج هذين العنصرين المختلفين. -هل هذه هي الطريقة التي تتبعها في اعمالك الفنية دائما، أي البحث الدقيق والتشبع بالثقافة اليابانية في اعمالك المعاصرة، كيف كانت الرحلة؟ - هذا النموذج البسيط من الحياة لا زال موجودا في اليابان اليوم ، فهناك التكنولوجيا المتطورة الكاسحة لكنها في نفس الوقت لم تتخل عن التراث. لست بحاجة إلى أن أقوم بدراسات عن الثقافة اليابانية لأني أعيشها في حياتي اليومية. فهذا الاتجاه إلى البساطة والتقشف الذي أصبح تيارا فنيا في الستينات، أي الاقتصاد في العناصر المستخدمة وحيث شعار «القليل هو كثير» كل هذا موجود ومستوعب في الثقافة اليابانية. فاذا كان الفرد العادي يملك بيتا به غرفة للنوم وغرفة للمعيشة وغرفة للطعام الخ، فإن الشخص الياباني العادي يعيش حياة بسيطة، تتحول فيها حجرته إلى مكتب وغرفة معيشة في النهار وغرفة للنوم في المساء. أظن أن هذا يرجع إلى ثقافتنا القائمة على كل ما هو بسيط وفي حده الأدنى. تبدو التقنية المستخدمة مذهلة بحيث يتحرك الشكلان المخروطان بحركة دائرية دون ان نرى اي أثر لقدم أو لوجود انساني على الرمال شديدة النعومة التي تمثل جزءا كبيرا من الحديقة، فيعطي العمل بعدا روحيا تأمليا خالصا ... - التقنية بسيطة ولا تهم حقيقة، لأن العمل كان بالنسبة إلى بحثا وتجريبا للوصول إلى هذه النهاية، ما يهم هو الظروف التي يقدم فيها العمل، حيث كان التحدي أن تظل الحفرة الصغيرة تتسع طوال الشهور الثلاثة حتى نهاية البينالي، وهو ما حدث ان اتسعت الحفرة في حركتها الدائبة بحيث تتوقف عن الدوران في نهاية الرحلة، هذا ما جعلني ألجأ إلى التكنولوجيا وليس أكثر من ذلك. فأنا أرى الطبيعة ليس كعنصر مستقل عن الانسان، بل ما يهمني هو الانسان كجزء ومكون أساسي للطبيعة، حتى حين يكون هناك منظر جمالي في المدينة فهو لا ينفصل من وجهة نظري عن الطبيعة. لا أحب الفصل بين الطبيعة والانسان لأن كل ما يتم ابداعه هو جزء من الطبيعة، من هذا المنظور يكون مهما جدا للقرن القادم ان نعيد تفكيرنا في الطبيعة بصفتنا جزءا من الطبيعة، وفكرتي في عمل هذا البناء (دكة خشبية مظللة في مواجهة حديقة العشب الجاف) كانت في الأساس لدعوة الناس للجلوس والتأمل والتفكر، أدعو الناس من خلال هذا العمل للتوقف عن الركض في كل اتجاه لجمع المال والدخول في صراعات، والجلوس للتأمل والتفكير. لا أجوبة لدي في أي عمل فني، كما أني ليس لدي اسئلة أيضا، لأن هناك أسئلة لا نهائية يقود سؤال إلى آخر وتتراكم الأسئلة في الصراعات السياسية وتجدين في النهاية أن كلها تتحمل الصواب والخطأ، وفي النهاية عليك أن تتبنى وجهة نظر واحدة، لهذا أردت أن أجعل الناس تتفكر.