اللقاء الذى جمع فى سوتشى على ضفاف البحر الاسود فى الاسبوع الماضى جون كيرى وزير الخارجية الامريكية مع الرئيس فلاديمير بوتين، يكشف ضمنا عن عدم صحة ما قيل حول عزلة روسيا وزعيمها، فى نفس الوقت الذى يؤكد فيه ما سبق وقالته موسكو حول صعوبة الانفراد بالقرار الدولى وحل اى قضية دولية او اقليمية بدون مساهمة روسية. ورغم ان الوقت يظل مبكرا للاعلان عن اختراق فى العلاقات بين روسياوالولاياتالمتحدة، فانه يمكن القول ان زيارة كيرى تظل خطوة مهمة على طريق تصفية الكثير من خلافات الجانبين بما تخللته من مباحثات مهمة، وطرائف ساهمت الى حد كبير فى تخفيف التوتر الذى طالما ساد علاقات البلدين . وكان المراقبون قد اعادوا الى الاذهان الزيارة التى كانت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل قد قامت بها الى موسكو فى اليوم التالى لاحتفالات عيد النصر، بعد زيارتها الاولى برفقة الرئيس الفرنسى فرانسوا هولاند فى فبراير الماضي، فى اعقاب زيارة مماثلة قام بها وزير خارجيتها فرانك شتاينماير فى الثامن من مايو الحالى لستالينجراد "فولجاجراد"، حيث وضع اكليلا من الزهور على مقابر ضحايا الحرب، واعلن صراحة عن اعتذار المانيا عما سببته من دمار وضحايا خلال تلك الحرب. القضايا التى تصدرت مباحثات كيرى فى سوتشى مع نظيره الروسى سيرجى لافروف ومع الرئيس بوتين ، كانت منها الازمة الاوكرانية والاوضاع فى سوريا واليمن وملف البرنامج النووى الايراني. وفيما كان سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسية وصف اللقاء بأنه "رائع"، قال يورى أوشاكوف مساعد الرئيس بوتين للشئون الخارجية ان الرئيس الامريكى باراك اوباما كان مهتما بان يستقبل بوتين وزير خارجيته، وان الجانبين خلصا الى اتفاق فى الرأى حول ضرورة الاستناد الى "اتفاقات مينسك" اساسا للتسوية السلمية فى اوكرانيا واهمية ضغط موسكووواشنطن، على كل من طرفى الصراع هناك. واشار أوشاكوف الى ان الجانبين بحثا خلال اللقاء الذى استمر لما يقرب من اربع ساعات ونصف الساعة،موضوع نشر قوات لحفظ السلام فى اوكرانيا فيما طرح بوتين ضروة الحوار المباشر بين طرفى الازمة الاوكرانية وهو ما وعد كيرى بالتفكير فيه. ومن جانبه قال كيرى فى مؤتمره الصحفى المشترك مع نظيره الروسى انه حذر الرئيس الاوكرانى بيترو بوروشينكو من مغبة ما يطلقه من تصريحات حول استئناف العمليات العسكرية فى جنوب شرق اوكرانيا وعزمه على استخدام القوة لاستعادة مطار دونيتسك الذى استولى عليه المقاتلون هناك. وفيما اعتبر المراقبون هذا التحذير الاول من نوعه منذ اندلاع الازمة الاوكرانية، اشاد كيرى بالتعاون مع الجانب الروسى والذى قال انه يعتبره مفتاحا لتنفيذ الاتفاق الذى جرى التوصل اليه مع ايران حول ملف البرنامج النووى الايراني، الى جانب الاتفاق حول ضرورة التوصل الى حلول سلمية لتصفية الازمة السورية. وعلى الرغم من ان نتائج زيارة كيرى لا يمكن وصفها بالاختراق الا انها وحسب تصريحات اوشاكوف مساعد الرئيس بوتين خطوة مهمة نحو تسوية العلاقات بين البلدين. وكان كيرى قد اشار فى المؤتمر الصحفى المشترك الى ان تنفيذ اتفاقات مينسك وتسوية الازمة الاوكرانية يمكن ان يسهم فى توفير الاجواء لرفع العقوبات المفروضة ضد روسيا، فيما اعترف لموسكو بحقها فى امداد ايران بصواريخ "اس-300" وعدم مخالفة ذلك للقانون الدولي، وإن اشار الى ان الوقت غير مناسب لهذا القرار. وبغض النظر عن مثل هذه التصريحات المفعمة بالكثير من التلميحات والايحاءات بما تتضمنه من متناقضات، فقد كشفت الزيارة التى قام بها كيرى لسوتشى بتكليف من الرئيس باراك اوباما عن رغبة غير معلنة من جانب واشنطن فى التوقف عن تصعيد المواجهة مع موسكو والتحول نحو اختزال الكثير من القضايا الخلافية فى اطار احتمالات التوصل الى "تجميد نسبي" للاوضاع فى اوكرانيا، وتركيز الجهود نحو الانتهاء من تسوية القضايا المتعلقة بملف البرنامج النووى الايرانى والذى يرتبط فى بعض جوانبه بالاوضاع فى كل من سوريا واليمن. ونقلت وكالة انباء "ريا نوفوستي" عن بول كريج روبرتس الخبير الاقتصادى والسياسى بتاريخ 16 مايو ما كتبه حول ان الادارة الامريكية صارت تتحسب لاحتمالات التحالف بين كل من روسيا والصين والهند، وهو ما بدت بوادره واضحة خلال احتفالات الكرملين بالذكرى السبعين لهزيمة المانيا الهتلرية. وقال روبرتس ان واشنطن صارت تدرك اكثر من اى وقت مضى ان تماديها فى محاولات عزل روسيا، لم يسفر سوى عن المزيد من تقارب بلدان مجموعة "بريكس" التى تضم كلا من روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا. ونقلت "نوفوستي" عن روبرتسون قوله،" لقد صار واضحا من مشهد جلوس بوتين الى جانب الرئيس الصينى خلال العرض العسكرى فى الميدان الاحمر، وحتى لكل اغبياء ادارة اوباما ان الولاياتالمتحدة لم تعد القوة الوحيدة فى العالم". ومضى روبرتسون ليعزو قرار الادارة الامريكية بايفاد كيرى الى سوتشى للقاء بوتين الى مثل هذه المتغيرات وما توحى به اتصالات موسكو مع حلفائها فى الشرق. ولعل ما اعقب احتفالات موسكو بعيد النصر من مناورات بحرية روسية صينية واسعة النطاق سوف تستمر حتى 21 مايو الحالى فى البحر المتوسط، تشير الى صحة هذه التقديرات، فيما كشفت عن مخاوف بعض الصحف الامريكية مثل "نيويورك بوست" حول ان القرن الحادى والعشرين يكاد يصبح "القرن الروسى الصيني"، بديلا عن "القرن الامريكى الجديد" الذى طالما حاولوا الترويج له من خلال ما تضمره واشنطن من خطط واحابيل على غرار "الثورات الملونة" فى الفضاء السوفييتى السابق، و"ثورة المظلات" فى الشرق الاقصى، و"ثورات الربيع العربي" و"الفوضى الخلاقة" فى مناطق الشرق الاوسط لاعادة رسم خريطة العالم. وكانت الاوضاع الاوكرانية قد شغلت حيزا كبيرا فى المباحثات التى جرت بين بوتين وكيرى حسب تصريحات المصادر الرسمية الروسية، لتكشف عن "تغير نسبي" فى مواقف واشنطن تمثلت بوادره فى تحذير كيرى للرئيس الاوكرانى بوروشينكو من مغبة تنفيذ ما وعد به حول الاستيلاء على مطار دونيتسك بالقوة، حسبما اعلن الوزير الامريكى فى مؤتمره الصحفى مع نظيره الروسى لافروف،. وكان كيرى قد كشف ايضا عن اتفاقه فى الرأى مع بوتين حول ضرورة الالتزام بتنفيذ اتفاقات "مينسك-2" التى خلت من اية اشارات الى "ضم روسيا لشبه جزيرة القرم"، فى الوقت الذى تنص فيه على ضرورة حوار الاطراف الاوكرانية المعنية واجراء الاصلاحات الدستورية والانتخابات فى جنوب شرق اوكرانيا بما يستجيب للكثير من مطالب سكان تلك المناطق. وذلك على ما يبدو هو ما كلف به جون كيرى مساعدته فيكتوريا نولاند التى اوفدها الى كييف لابلاغ القيادة الاوكرانية بذلك، وحثها على الالتزام بتنفيذ اتفاقات "مينسك-2" ، فضلا عن اعلان هذه القيادة بملاحظات الادارة الامريكية على الكثير مما يموج المجتمع الاوكرانى به من مشاكل، وفى مقدمتها "مشكلة الفساد" وتعثر الاصلاحات الاقتصادية. ولعل ما عاد الرئيس الاوكرانى واعلنه حول التزامه بهذه الاتفاقات، يقول بتراجعه عما سبق ولوح به من تهديدات باستخدام القوة ومن الطريف ان كيرى كان قد استهل زيارته لسوتشى بزيارة قبر الجندى المجهول فى المدينة ووضع اكليل من الزهور تقديرا للضحايا من ابناء المدينة، ليفاجأ هناك بوصول نظيره الروسى لافروف على متن سيارة ناصعة البياض من طراز "بوبيدا" ( النصر) من انتاج ما بعد الحرب العالمية الثانية، وسط اجواء احتفالية ومراسم استقبال حاول كيرى التعبير عن ارتياحه تجاهها بدبلوماسيته المعهودة .." الجو رائع هنا .. البحر والخضرة والنسيم العليل"!. وكان طريفا كذلك ان يبادر لافروف على نحو لا يخلو من مغزى باهداء نظيره الامريكى "تى شيرت" "يحمل شارة انتصار الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية، الى جانب سلتين تحتويان على احدث سلالات البطاطس والطماطم التى انتجتها روسيا هذا العام، وإن حاول كيرى التغاضى عن "دلالات هذه الهدايا" مكتفيا بتعليقه حول "ان الهدية لا تعنى معنى خاصا". ويذكر المراقبون ان كيرى كان قداهدى لافروف فى يناير 1914 سلة من "البطاطس" من انتاج ولاية ايداهو الامريكية.