«قل لى ولا تخشاش ملام حلال القبلة ولا حرام القبلة إن كانت للملهوف اللى على ورد الخد يطوف ياخدها بدال الوحده ألوف ولايسمع للناس كلام» قد تستدعى صوت ام كلثوم فى هذه الطقطوقة المرحة أثناء تجولك بين القطع النحتية فى معرض الفنان محمد رضوان، أو قد تدندن ببعض منها حين تجد نفسك محاطا بكل هذه «القبلات» فى معرض «عالم» الذى أقيم فى قاعة كريم فرنسيس بالقاهرة وجمع نحو 30 عملا نحتيا من البرونز. تتشارك جميع القطع فى سمات محددة مثل الأعناق الممتدة والوجوه المتضرعة والشفاة التى انحسرت وصارت ممدودة للأمام «تتوسل» قبلة، ولكنها تختلف فيما بينها لتصنع شخصيات وطبائع مختلفة تفرض نفسها رغم ميل الفنان إلى التجريد. هل كان يقصد بعنونة معرضه «عالم» أن يشير إلى عالم القبلات، فى هذه اللحظة المشدودة عن آخرها، لحظة ما بعد الحكم الاسلامى «المتشدد» والسعى للخروج عن الأطر المحافظة والدعوة لتنسم نسيم الحب والحرية؟
أما تيمة القبلة، فطالما تناولها عظماء المصورون من انجر وشاجال وماتيس، وعُرف ادفارد مونش بالعديد من اللوحات التى حملت اسم «القبلة»، وكذلك كليمت. استخدمها البعض بشكل ايروتيكى أو بشكل رومانسى ولجأ إليها النرويجى مونش للتعبير عن الحب وعن القلق الوجودي، بينما أظهر النمساوى كليمت من خلال القبلة الصراع بين العالم الخارجى الصاخب المتسارع وبين زمن العشاق الداخلى الذى تم تثبيته متحديا فكرة الزمن. كما ولا يمكن نسيان قبلة اوجوست رودان الخالدة ضمن الأعمال النحتية الفذة فى تاريخ الفن، ففى كل الأعمال المعروفة اعتمد العمل الفنى على العاشقين أى على ثنائى الرجل والمرأة، بينما فى معرض أعمال محمد رضوان، كثف الفنان القبلة فى طرف واحد وحيد، امرأة كان أو رجلا، ومن هنا وبمجرد الاستغناء عن طرف من طرفى العناق والقبلة، يصبح هناك مجاز وتكثيف دال وحالة مغايرة عما تطرحه تيمة القبلة، فهى قبلة من طرف واحد تطرح أبعادا اكثر فلسفية، يلتقط فيها الفنان لحظة «التوق» وليس مجرد علاقة حبيب بحبيبه، بل الولع والتوق إلى التواصل مع الآخر، أو ربما المناجاة والبحث عن الخلاص والوجد الصوفى والتضرع لوصول عالم الأعالي.
ويتحول غياب أحد طرفى القبلة إلى عنصر يليق بالتجريد الذى انتهجه الفنان حيث تتماهى ملامح الوجه مثل العيون وتفصح الأنوف عن نفسها على استحياء، بينما التعبير والاحساس بشكل أساسى فى علاقة الكتلة بالفراغ و فى وضعية الوجه او القطعة النحتية فى ارتكاز اسفل الرأس على الأرضية الصلبة و استطالة الأعناق، بحيث يتوجه الوجه إلى الأعلى، ثم يتعامد الضوء عليه فنرى نظرة العيون رغم غياب ملامحها، ونرى نماذج لشخصيات فى الحياة مثل فتاة بوجه ممتلئ وشفاة مكتنزة تشعر أنك رأيتها من قبل فى إحدى المناطق الشعبية، أو سيدة تحمل قسمات الوجه الفرعوني، ووجه لرجل متجهم وبجانبه وجه امرأة مشرقة متفتحة، ومن خلال عرضهما كثنائى مترابط (رجل وامرأة)، تتخلق علاقات لا محدودة بين العملين وتبرز روح مرحة وحس فكاهى حول علاقات الرجل بالمرأة. تسأل الفنان نفسه عمن وراء هذه الوجوه، فيجيبك أنها نتاج الخيال وتأمل وجوه الناس العادية، ولكن مع ذلك يسعد حينما يشير أصدقاؤه وطلابه إلى أحد الوجوه وقد رأوا فيه شبيها بشخص عرفوه معا، «أسعد حينئذ لأنى أتيقن أن الفورم صار متماشيا مع الشخصية» كما يشير رضوان.
وينفتح «عالم» محمد رضوان على تجربة جديدة للفنان نفسه بل وعلى عالم من التجريب فى النحت، حيث يعمل فى محرابه لساعات طويلة ليقدم ألوانا جديدة تخصه وحده مثل درجات من الأزرق أو البنى المائل إلى البرتقالي، أو هذا اللون الخاص جدا ما بين الرمادى والبني، يعمل بدقة شديدة ويتابع كل خطوات النحت دون أن يعتمد على السباكة والورش المختلفة كما هو متعارف عليه، يسلم القطعة إلى الورشة لصبها ثم يشتغلها من جديد وينهيها، ويعترف أنه لا يستطيع إلا أن يقوم بكل خطوات العمل، رغم ما يؤكده أنه «أصبح اليوم لدينا نحاتون مهرة وورش للسباكة والصب متميزة يرجع الفضل فى وجودها للفنان آدم حنين وتأسيسه لسمبوزيوم أسوان للنحت»، هذه الدقة وهذا الجلد فى العمل الفنى يرجعهما إلى تتلمذه على يد الفنانين العظيمين عبدالهادى الوشاحى وآدم حنين.
يسجل معرض «عالم» مرحلة جديدة فى حياة الفنان محمد رضوان الفنية تفصح عن نفسها بقوة، هو استاذ قسم النحت بكلية الفنون الجميلة، لمع اسمه كأحد تلامذة آدم حنين الذى اختاره فى اللجنة الاستشارية لسمبوزيوم أسوان، وشارك فى العديد من المعارض والسمبوزيوم الدولية، وفى معرض «وجوه» الذى عُقد فى قاعة أفق بمتحف محمود خليل وحرمه وضم كوكبة من الفنانين الراسخين وكانت أعماله النحتية تتميز دائما بالمسطحات المستطالة المجسمة أى تلخيص الكتلة فى مسطحات، أما اليوم فقد انتقل وتحول من المسطحات إلى الكتلة، وأصبح همه هو كيف يجسد خفة الحركة واستطالتها فى الكتلة الراسخة.
نجح الفنان من خلال قبلات شخصياته غير المتحققة فى أن يثير دهشة المتلقى ويفتح أمامه العديد من الأسئلة المعلقة حول الفعل فى انتقاصه أو فى طور تحققه، أوالبحث عن اكتماله، وأمام كل قطعة نحتية فتح أمامنا عوالم من المشاعر والمرويات تحكيها الشفاة الممدودة.