أن نقدس الوطن ونحبه... ونخلص له الولاء ونذود عن حماه بالروح والدم.. فهذا أمر لا نقاش فيه ولا مماحكة.. ولا مساومة.. أن نتيم عشقا بمصر ونتدله في هواها.. وننشد لها الأهازيج التي تتغني بماضيها وأمجادها وحضارتها التي علمت العالم وكتبت له التاريخ. فهذا أمر طبيعي يفعله كل المواطنون مع أوطانهم.. أما أن نكذب وننتحل لمصر ماليس فيها.. وندمن الكذب حتي نصدقه ويصبح من المسلمات التي نغرسها في نفوس أطفالنا.. فهذا هو الخطأ.. والخطر معا... زمان.. ونحن علي أول اعتاب الطفولة في المدرسة الابتدائي... كان كتاب المطالعة الذي غيروا اسمه فيما بعد إلي القراءة الرشيدة كان هناك موضوع ثابت لا يتغير يتحدث عن مصر.. جنة الله في أرضه.. ويصف طبيعة مصر بأنها خلابة تسبي القلوب وتسحر النظر وتفتن العقول.. ويمعن في وصف ريفها السندس الأخضر ونيلها الخالد الذي شبهه احمد شوقي قي قصيدته العامية الشهيرة التي غناها عبد الوهاب بالنجاشي.. أمير الحبشة الحليوة الأسمر!! ثم يتغزل بمناخها الرائع البديع... الذي هو حار جاف صيفا ودفيء ممطر شتاء( أكذوبة جغرافية هائلة لم نرها متحققة علي أرض الواقع ابدا)! وكبرنا.. وانتظرنا.. نظرنا.. ثم تساءلنا... اين ما تحدث عنه العباقرة مؤلفو موضوعات القراءة الرشيدة ؟... وتتكشف الحقائق واحدة تلو الأخري.. خمسة أسداس مساحة مصر.. صحراء جرداء قاسية.. والسدس شريط مزروع في الواديجنوبا ثم دلتا بين فرعي دمياط ورشيد.. ودمتم...! ذاك كان غاية جهد النهر العظيم الي تركناه يتثاءب في مجراه ويفرغ مياهه في المتوسط قرونا عديدة قبل ان ننتبه ونفكر في استثمار إمكانياته الهائلة... وما زلنا نحبو علي هذا الطريق بمشروعين يتيمين السد العالي.. ثم توشكي.. ومازالت الصحراوان الهائلتان شرقا وغربا تجثمان علي أنفاس الوادي والدلتا وتحيلان أي ملمح جمال أو نفثة عطر إلي كابوس!! أين هي الجنة ؟ في المجاز.. نعم! موجودة.. وهي جنة معنوية تزهر بحب وطن عبقري, وطن يأكل ويطعم بنيه ويبدع حضارة ويعلم الجيران الي سابع جار ويكتب التاريخ رغم انه يعيش فعليا علي سدس أرضه فقط.. بهذا السدس الشاحب المخنوق يفعل هذا كله ويبهر الأولين والآخرين حتي يدفع المؤرخ الاغريقي هيردوتس إلي التعلل بالنيل.. فمصر في رأيه هي هبة النيل, ولكن النيل ياعمنا لم يساهم بأكثر من السدس.. فكيف يكفي ؟ لاشك أنها عبقرية.. عبقرية المكان والموقع طبقا لعالمنا الراحل جمال حمدان وأضيف أنا بكل تواضع أنها أيضا عبقرية الإنسان! وأي عبقرية اكبر من التواؤم مع طبيعة الصحراء ومناخ الخماسين ؟!! أي عبقرية أعظم من تحمل مأساة اغتصاب الربيع؟ دعونا أولا من مقولة اننا نتبع مناخ البحر الابيض المتوسط!.. فهي كما اسلفت مقولة مغلوطة مزورة! فمناخ البحر المتوسط يمكن أن نجده في دول جنوب اوروبا المطلة علي ساحله الشمالي من تركيا شرقا إلي أسبانيا غربا مرورا باليونان وايطاليا وفرنسا.. كما يمكن ان نجده في دول الساحل الشرقي كفلسطين ولبنان وسوريا وحتي في الساحل الإفريقي المطل علي جنوب البحر سنجد المناخ في تونس والجزائر والمغرب وربما بدرجة أقل في ليبيا.. تبقي مصر وحدها خارج الإطار.. فلها أطول موسم حار يبدأ من مارس وينتهي في أكتوبر.. واختصر خريفها مع شتائها في أربعة شهور لا أكثر. فمن نعم الحظ الجميل ان تقع مصر عند مصب ما يسمي منخفض الهند الموسمي الذي يتجمع ويبلغ عنفوانه في الجزيرة العربية السعودية ثم ينفث جحيمه علي بلادنا في موجات حارة متصلة متلاحقة طوال شهور صيفنا القائظ الناري.. أما الربيع.. عروس الفصول الاربعة.. حيث قيل لنا أيضا دون أن نري انه موسم التفتح والإزهار وتفجر جمال الطبيعة. الربيع الذي رددنا الأبيات في استقباله.. علي لسان عمنا البحتري أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا وقد نبه النيروز في غسق الدجي من الحسن حتي كاد أن يتكلما أوائل ورد كن بالأمس نوما .. الربيع الذي غنينا له مع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ والذي اخترع له أجدادنا الفراعنة عيدا خاصا نعرفه اليوم باسم شم النسيم, هذا الربيع لم تعرفه مصر ولم يعرفه المصريون... فهو الفصل الشبح الذي نسمع عنه ولا نراه.. والحكاية أنه قد وقع من زمن بعيد في براثن كارثة طبيعية تدعي الخماسين وهي رياح شريرة مسمومة تهدد مصر طوال خمسين يوما.. وحين تهب فعلي كل شيء العفاء.. الصحة والمزاج والعمل والنوم والأكل وكل مايمكن أن يعرض للانسان في اي يوم من أيامه.. فمع هبوبها الربيعي الفاتن!! نستنشق لهبا محملا بذرات رمال وتراب تلسع الأنف والحلق والرئتين.. وتتحول عملية التنفس العادية( الشهيق والزفير) إلي عملية احتضار مؤلمة.. ويتسلل مسحوق الخماسين الترابي الخبيث إلي كل شيء.. فراشك الذي تنام عليه.. وخبزك الذي تأكله.. وكوب الماء الذي تحتسيه.. ومسام جلدك ورموش عينيك يحتلك بالكامل. لا يكتفي باغتصاب ربيعك الشبح بل يمتلكك ويستلبك ويحيلك إلي مجرد خرقة بشرية لا تصلح حتي لتلميع صاج السيارة.. فأهلا بك أيها القادم تختال ضاحكا فأنا أعرف ماذا يضحكك.. أهلا أيها الشبح المغتصب ولا عزاء لقراء المطالعة الرشيدة