كان المكان جميلا, والعشاء شهيا, والمناخ إفريقي الهوي, والنفس مفتوحة علي الآخر, حين بدأ دبلوماسي عربي رفيع المستوي في الحديث عن مصر, وكان يتساءل عن سر إحتلال المصريين لمواقع مهمة في المنظمات الدولية والإقليمية المختلفة, فأجبته بما تيسر من التواضع.. ويبدو أن ذلك قد أغراه بالإبتعاد مسافة عن اللغة الدبلوماسية كي ينتقد أشخاصا بعينهم ومناصبا بعينها, ومرة أخري رددته بما تيسر من اللباقة, ولكنه كان قد اشتعل بالفعل وفاحت رائحة شوائه وتسربلت كلماته بالدخان, كان يقذف إتهامات جزافية, ينبش في تواريخ مضت بغير إلمام كبير بها, يسألني وهو يدق المنضدة بقبضته لماذا أتهرب من مواجهة هذه الإتهامات, فقلت له بما تيسر من الاختصار: يا أخي المسألة كلها كلام.. لا تشغل بالك!!.. لقد أصبح الكلام عبارة عن كلام حول كلام أو في كلام, أو باختصار مجرد كلام, وهذه أسوأ حالات الكلام التي يكون السكوت خلالها أغلي من الذهب!.. في نهاية السهرة تقدم هذا الدبلوماسي العربي رفيع المستوي نحوي كي يعانقني بحرارة, ويهمس في أذني متسائلا عما إذا كنت قد غضبت؟!, وقبل أن يعرف إجابتي سارع يقسم قسما غليظا بأنه لم يحب بلدا من البلاد قدر حبه لمصر, ولم يعشق شعبا قدر عشقه للمصريين, وأنه شخصيا تعلم في مصر علي نفقة حكومة عبد الناصر, وكان يتقاضي مصروف جيب من الحكومة المصرية كان يحسده عليه زملاؤه من الطلبة المصريين الغلابة( هكذا تفضل بوصفهم), ورقرقت عيناه بالدموع وهو يرجوني أن أسامحه علي صراحته!!.. كنت مندهشا, ولكنني قلت له أنني أسامحه حتي قبل أن نلتقي في هذه الليلة, لأنني سمعت ما يقوله علي ألسنة آخرين, وأقدر حالته كما آراها: يكرهني ولكنه لا يقدر علي بعادي أو يحبني ولا يطيق وجودي, ومن المؤكد أنها ليست حالة سياسية أو ثقافية, بل هي من أمور علم النفس الاجتماعي التي تحتاج إلي شجاعة طرحها, فربما أمكن فهم بعض معضلاتنا بما يساعد علي علاجها ذات يوم.. لقد ظل يعانقني ويقبلني بشكل لفت نظر بعض الحضور, فتخلصت منه بما تيسر من الحزم.. انتهت الليلة, وانتهي الموضوع, ونسيته حتي وجدته اليوم يزاحم قلمي الذي كان يهدف في البداية أن يتناول أوضاع العرب الجارية.. هل تصدق مقولة أن العرب ظاهرة صوتية؟.. أنا لا أصدق هذه المقولة رغم كل شيء, والتاريخ يؤكد قناعتي, وأظن أن ما نرصده من مظاهر التشرذم والتشتت ليس إلا نتاج أوضاع سياسية واقتصادية وثقافية ونفسية مهزومة, أفقدت اللغة محتواها وجدواها, فلم نفقد التواصل فقط وانما أيضا فقدنا الثقة في التراث المحفوظ, وفي أنفسنا. أزعم أن أولي لبنات تجسير هذه الفجوة هي ان نتحلي بما يتيسر من الصراحة والوضوح, أن نضغط علي الدمامل بشجاعة كي نخرج منها كل القيح والصديد المتراكم, وأن ننظفها ونطهرها مهما تكن الأوجاع والآلام, حينذاك لن يضطر أحد إلي أن يخفي خنجره خلف ظهره وهو يعانق الآخر متحينا الفرصة الغادرة كي يغمده في صدره, ولن يضطر إنسان أن يحتقر نفسه حين يقول بلسانه غير ما وقر في قلبه.. الصراحة والشفافية هي المفتاح الذي نفتح به خزانة الحروف كي نرص أبجديتنا الجديدة... قدر أقل من العواطف, وقدر أكبر من العقل والفهم والتقدير..