كانت المنيا تسمي »عروس الصعيد« هل لأنها تجمع علي أرضها كل الرقائق الحضارية المصرية، فهي بيت الاله »تحوت« اله الحكمة والمعرفة عند المصريين القدماء، واليها ينتسب الملك اخناتون، صاحب دعوة التوحيد، التي أكدتها الأديان السماوية بعد قرون، والملكة حتشبسوت ويقبع معبدها بتل العمارنة، وفيها شيدت كنيسة السيدة العذراء تزامناً مع كنيسة القيامة بالقدس، القرن الرابع الميلادي، ويحتضنها جبل الطير وفيه أحد أقدم الأديرة بمصر والعالم، وعرفت الاسلام مبكراً في عصر الخليفة عمر بن الخطاب، وتضم العديد من المساجد الأثرية لعل أهمها مسجد العالم الاسلامي أحمد الفولي. وتعد المنيا متحفاً مفتوحاً للآثار اليونانية والرومانية والمسيحية والاسلامية، علي امتداد أرضها من الأشمونيين الي تونا الجبل وتل العمارنة والبهنسا وبني حسن وسمالوط حيث المسجد العتيق، وغيرها بما لا يخضع للحصر. وقدمت لمصر قائمة ممتدة من الرموز الدينية والأدبية والسياسية والفنية. وعلي أرضها تشكلت الجماعات الإسلامية بتنوعها، بأجيالها المختلفة، منذ أن دشن انطلاقها الرئيس الراحل السادات في تخطيطه لخلق ظهير سياسي يجد من خلاله لقدمه موقعاً في مشهد كان يحتله بجملته عبد الناصر آنذاك، في رؤية تدرك أن الأيديولوجية تزاح بأيديولوجية، كانت جراح كارثة يونيو 67 تمهد الذهنية العامة الشعبية للقبول بالاتجاه يميناً والهجرة من الأرض للسماء، بعد أن تولت جحافل هذا التوجه الايغال في التأكيد علي أن الهزيمة ترتبت علي بعدنا عن الله وما هي الا عقوبة مستحقة لا يرفعها الا عودة الي الدين، برؤية هذه الجماعات، التي أُتيح لها برضا سيادي كل منابر التأثير من زوايا الشوارع وحواف الترع الي شاشات ماسبيرو، وبالتوازي كانت جماعة الاخوان المنحلة قد أحكمت سيطرتها علي منظومة التعليم، وعندما اختلفت معه اغتالته، فلا صوت يرتفع فوق حلم الخلافة. كان من ابرز رموزها التي تنتمي للمنيا عاصم عبد الماجد، مهندس الفتنة والارهاب، وكرم زهدي، وعلي اكتافهما قامت الجماعة الاسلامية، وكانا ضمن قائمة المتهمين باغتيال السادات، والمهندس ابو العلا ماضي الذي انشق عن جماعة الاخوان وأسس حزب الوسط، وقد توزعوا علي سلم تفخيخ المجتمع ومحاولة قنص اندماجه لحساب حلمهم الأثير، تحت الأرض وفوقها. وبالتوازي يولد علي ارضها أكثر منظمات المجتمع المدني حراكاً علي مستويات متعددة في دوائر التنمية الفكرية والمجتمعية والتنويرية. ولا تلمس تواجداً حقيقياً للأحزاب المدنية ليصبح الشارع في حوزة الأحزاب الدينية المنحلة والمعطلة والقائمة، والتي تعمل من خلال المنابر الدينية واختراقها لكوادرها حتي الي وزارة الأوقاف والمعاهد الدينية المنبثة في القري والنجوع. وعلي الرغم مما لرجال الأعمال المنتمين للمنيا من تواجد وثقل الا أن الأعمال التنموية ليست بين اهتماماتهم حتي في دوائر الاستثمارات، لذلك نلمس التناقض بين الطبقات حيث الثراء اللافت والفقر المدقع، وغياب المشروعات القومية التي تستثمر امكانات المنطقة علي تنوعها من الزارعة الي المحاجر الي السياحة المتراوحة بين التاريخية بآثارها المتنوعة والدينية اسلامية ومسيحية، مدعومة باعتدال مناخها. علي أن الملمح الأكثر التصاقاً بمحافظة المنيا أنها صارت منذ منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم مشتلاً للارهاب الذي زرع مع تأسيس الجماعات الاسلامية في موجتها الأولي والتي انحسرت عقب مذبحة الأقصر 1997، ثم تتصاعد مجدداً لتبلغ احدي ذُراها بعد 25 يناير، وتتمدد بعد تولي الاخوان السلطة، وتنفجر في 14 أغسطس 2013، عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة، وكان المصريون المسيحيون (الأقباط) هم وقود الأرهاب شخوصاً وممتلكات وكنائس وتهجيراً قسرياً، وتقف الادارة عاجزة عن مواجهة موجات وانفجارات الارهاب، ليس فقط لكون الحل الأمني هو خيارها الأول، والأسرع لحصار الحرائق المجتمعية، في غير ادراك أنه تسكين يرحل الانفجار الي لحظات قادمة، ويدعم عجزها غياب الرؤية المتكاملة لطبيعة المجتمع هناك، والتعامل البيروقراطي الوظيفي، والذي يعاني بدوره من اختراقات تلك الجماعات، بامتداد عقود، حتي تخال أن الادارة تتعامل مع مواطنيها المستهدفين باعتبارهم جالية في وطن. فضلاً عن استراحة الادارة الي جلسات الصلح العرفية، التي اصبحت حلاً حاضراً يكاد يكتسب مشروعيته، من اصرار مسئولي الاقليم عليه، ويقبله متضررو الإرهاب عنوة حتي مع تحوله الي عقد اذعان، كالمستجير من الرمضاء بالنار، بعد أن صارت قوة المجتمع المحلي المختطف لحساب منظومة الجماعات متجاوزاً حضور الدولة ممثلة في السلطة المحلية. وغير بعيد تقف المنظمات الحقوقية والتجمعات والائتلافات الشبابية الرافضة لهذا، لكنها لا تمد بصرها ابعد من اللحظة، ولا تلتفت للمراكمة التاريخية فتدير معارك مع اللحظة وتحملها ما يحدث دون ان تدرك وجود مجتمع لديه قناعة بما يحدث وقد تربي وجدانه وعقله علي هذا، ليعطل اعمال قرار جمهوري ببناء كنيسة، ويتم التفاوض مع الرافضين بعيداً عن ضوابط القانون، وظني أن عليها أن تقف مع الدولة في خندقها دفاعاً عن مدنيتها، تقدم لها حلولاً ابتكارية قابلة للتطبيق علي الأرض وموجهة للثغرات التي تتعثر فيها، بغير مصادمة، في مرحلة انتقالية لم تنته بعد، ومازالت تحمل آثار انظمة لم تنسحب تماماً من المشهد بل تقاوم لاجهاض سعي الخروج من النفق. وعلي الجانب المقابل من النهر علي الدولة ان تتخلص من مفاتيحها القديمة وتشرع أبوابها للشباب الذي يملك طاقات ايجابية وحبا لوطنه لا يقبل التشكيك، وتسرع الخطي لاستكمال تنقية ثوبها من بقايا ماض تولي، وتنتبه أن من لا يزرع التنمية يحصد الارهاب بحسب تعبير الكاتب الصحفي سليمان شفيق، ابن المنيا، ولا أظننا نملك ترف التخلي عن الدولة القوية الحاضرة بوعي علي الأرض لمزيد من مقالات كمال زاخر موسى