رحل البابا شنودة الثالث في لحظة تاريخية تتسم بالحساسية والحرج السياسي حيث يشيع الغموض والاضطراب في الرؤي والنزاعات حول القيم السياسية المؤسسة للدولة والنظام الدستوري, والأخطر تزايد المخاوف والشكوك حول مستقبل المسيحيين في مصر والمنطقة العربية. في ظل هيمنة القوي السياسية الإسلامية علي الحياة السياسية وفي قلبها البرلمان, بكل ما يشكله ذلك من تغيير في غالب القواعد التي شكلت تاريخيا علاقة الكنيسة بالدولة والنظام طيلة عديد العقود من السادات إلي مبارك, وذلك من حيث التحالفات والتوافقات والتوترات والنزاعات, وحدود المناورات وهوامشها بين الدولة وأجهزتها, لاسيما الأمنية, وبين البطريرك وكبار الأساقفة. لعبة سياسية شكلت عقدا سياسيا غير مكتوب في ظل تسلطية سياسية استبعدت المواطنين الأقباط من المشاركة السياسية الفعالة, وأضعفت العناصر المدنية لصالح الأكليروس رجال الدين الذي لعب دورا فعالا في تمثيل مصالح ورؤي الكنيسة والأقباط معا. في ظل هذه المخاوف وغيرها يحتدم الجدل والسجال العنيف حول مستقبل الدولة المصرية, وهل يغير الإسلام السياسي من طبيعتها الحديثة ومن مؤسساتها لصالح تديين الدولة والنظام والمجال العام السياسي, والهندسة القانونية التي تحكم العلاقات بين المواطن والدولة وأجهزتها, وبين المواطنين بعضهم بعضا. من هنا كان رحيل البابا شنودة الثالث أو أثناسيوس القرن العشرين في نظر بعض محبيه ومؤرخي حياته والكنيسة شكل صدمة نفسية, وأزمة سياسية حول مستقبل الكنيسة ودورها في المجالين السياسي والرعوي, وهل تستمر ذات السياسة وأساليب العمل التي سادت طيلة مرحلة البابا الراحل أم ستتغير وما حدود هذا التغير المحتمل؟ يبدو لي أن دور البطريرك الراحل كان بالغ التميز أيا كان الاتفاق أو الاختلاف حول بعض أدواره, حيث شهدت الكنيسة نهضة رعوية وديرية في عهده وقام بسيامة أكثر من مائة أسقف عام, وأول أسقف للشباب إيمانا منه بأهمية دورهم وطبيعة مشكلاتهم, بالإضافة إلي صحوة العمل الرهباني وسيامته لمئات من الرهبان وإنشاء عديد الأديرة في المهجر, وترميم الكنائس.. إلخ. ثمة عديد السمات الشخصية والقيادية الاستثنائية للبابا الراحل, تتمثل في شخصيته الكاريزمية وذكائه السياسي والديني, وحسه المصري الساخر في لطف ومحبة, وقدراته الخطابية والوعظية التي استطاع من خلالها أن يكتسب محبة وتأييد الغالبية الساحقة من الأقباط, ومن ثم ارتكزت قيادته لهم علي عديد المهارات الشخصية إلي جانب الموقع الديني البارز. كانت سيامة البطريرك لغالب الأساقفة الشباب جزءا من ذكائه البارز, لاسيما في التعامل معهم علي نحو أدار العلاقات فيما بينهم بكفاءة وبراعة بين بعض الراديكاليين والمعتدلين, وبين تشدد بعضهم ولين الآخرين واستخدم توزيع الأدوار فيما بينهم داخل المؤسسة في براعة في أمور الأكليروس الداخلية وفي علاقتهم بالمواطنين الأقباط وأجهزة الدولة, بل وفي التعامل مع بعض المتمردين من الشخصيات العامة القبطية علي دور الأكليروس أو البطريرك في المجال العام السياسي المحاصر. استطاع البابا شنودة أن يحافظ علي تماسك المؤسسة القبطية الأرثوذكسية والأقباط في واقع سياسي وديني وطائفي عنيف ومضطرب في ظل ازدياد الفجوات بين المصريين جميعا, والأخطر في سياقات انكسار الموحدات القومية التي تأسست في ظل المرحلة شبه الليبرالية واستمرت حتي مرحلة الرئيس جمال عبد الناصر, وبدأت في الشروخ والانهيارات في مرحلتي السادات ومبارك. في هذا الإطار التاريخي والسياسي والديني استطاع أن يدير التوازنات بين الكنيسة والدولة والقوي الإسلامية السياسية, والاحتقانات الطائفية في الحياة اليومية وفي التعليم. من أبرز مهارات البطريرك هو قدرته علي تشكيل منظومة كنسية في المهاجر تربط بين المهاجرين, لاسيما الأجيال الجديدةالشابة, وبين الكنيسة الوطنية والثقافة والإيمان والعقيدة الأرثوذكسية المصرية, وفي هذا الإطار تم سيامة عدد من الكهنة المؤهلين لكي يقوموا بأداء أدوارهم الرعوية والدينية بكفاءة. من أهم ما قام به البطريرك الراحل مطالباته بضرورة تمثيل الأقباط في البرلمان وفي الحياة السياسية بفعالية. من ناحية أخري دوره في عدم تطبيع الأقباط مع إسرائيل من خلال الحج, وذلك حتي لا ينسب لهم تهمة التطبيع ويؤدي السفر للحج إلي القدس إلي خلافات مع إخوتهم في الوطن من المسلمين. عديد من الأدوار, وسمات شخصية استثنائية أدت إلي هذا الحضور الطاغي للبطريرك في إطار الحركة الوطنية المصرية, وعلي المستويين العربي والدولي, علي نحو نستطيع القول إن الكنيسة القبطية شهدت مرحلة بالغة الخصوصية في تاريخها الحديث والمعاصر, ومن ثم جاء رحيله في مرحلة دقيقة في تاريخ مصر والكنيسة عقب عملية ثورية تواجه عديد الإعاقات الهيكلية, وفي ذات الوقت تحديات أخري علي رأسها: مخاطر التشظي والخلافات بين الأكليروس داخل مصر, إزاء متغيرات كونية عاصفة ومشكلات الرؤي المحافظة السائدة. تحدي ضرورة إعادة صياغة العلاقة بين الأكليروس والعلمانيين في ظل عملية ثورية, واحتمالات تطور ديمقراطي. تحدي العلاقة مع المهجر ونشطائه, والأجيال الجديدة والخطابات الدينية المحافظة لاسيما في مجال الأحوال الشخصية. تحدي إعادة تنظيم المؤسسة ماليا وإداريا, والعلاقة بين الأكليروس وبين الأقباط الأثرياء والفقراء بحيث تكون الكنيسة الأرثوذكسية هي كنيسة الفقراء, وليست كنيسة الأغنياء, هي للجميع ولكن للأغلبية أساسا. تحدي التعامل مع وضع الدستور الجديد, والرئيس القادم, والأهم الدولة وقوي الإسلام السياسي. إن التحديات السابقة سوف تطرح ذاتها بقوة علي البطريرك المقبل أيا كان. المزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح