فى أوائل ثمانينيات القرن الماضى سألنى أستاذى الفرنسى بيرتييه أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة السوربون عن الموضوع الذى أنتوى التسجيل فيه، فقلت له: فلسفة الدين؟ فسألنى ثانية لماذا هذا الموضوع بالذات فقلت له فى حماسة شباب (يحسدنى الآخرون عليها وقتئذ): لأننى أرى أن الدين انحسر كثيرا فى اهتمامات الناس.. ولذلك أردت أن أبحث عن الأسباب.. فاندهش الرجل وقال: انى قد أوافق على الموضوع رغم أننى أرى شيئا آخر، وهو أن الدين على العكس تماما قد تغلغل فى نفوس الناس.. ! ثم دلل على ذلك بإيران وما حدث فيها من تيار اسلامى غلب الشاه وطرده من عرشه حتى أصبح لاجئا لا تقبل أمريكا التى جندته سنوات عديدة ليكون شرطيا لمصالحها فى الشرق الأوسط أن يدخل زائرا (حيا) أو جثمانا (ميتا).. اليوم أعترف بأن أستاذى يرحمه الله كان على حق وأذكر أنه تركنى أبحث فيما ذهبت إليه حتى تبين لى صدق ما كان يقول.. واليوم أرى أن الدين حتى فى أكثر الدول علمانية مازال يتربع على عرش الجميع ناهيك عن أنه مازال يعمر نفوسا كثيرة.. وهنا أذكر لأستاذ الفلسفة الراحل (د. زكريا إبراهيم) أنه قال فى صدر مقدماته لسلسلة كتبه «مشكلات فلسفية» أن انكار وجود الدين لهو أكبر دليل على أنه مازال موجودا. فأنت مثلا إذا أصررت على انكار المائدة الخشبية «فى وسط الحجرة التى تجلس فيها هو أكبر دليل على وجود هذه المائدة وإلا لما فكرت فى انكار انها موجودة! لا أريد بطبيعة الحال أن أدخل هذا المجال الفلسفي. فما هكذا قصدت أو رميت ولكن لاحظت أن الدين لم يعد يتدخل فى السياسة الداخلية للدول فقط وإنما أصبح يتدخل فى السياسة الخارجية. فداعش الذى يقتل فى ليبيا ويسمح أفراده أو معتنقوه بذبح من يختلف معهم فى الديانة سواء من مصر أو من إثيوبيا يريدون اقحام الدين فى السياسة الخارجية للدول.. وهذا بحق السماء تزيد ومغالاة وجريمة يعاقب عليها القانون بأقصى العقوبات.. فالرسالة واضحة لا لبس فيها وهى أن الدين يفرق هكذا يقولون فى التعامل بين البشر على أساس الديانة أو العرق أو اللون.. وهذا ما يمجه العقل السليم لأن البشر جميعا سواسية كأسنان المشط ولا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى التى تظهر فى السلوكيات والتصرفات!! المؤسف أن الإنسان يكون دائما على الفطرة السليمة منذ ولادته حتى يأتى كما يقول الإمام الغزالى أبواه فيمجسانه (من مجوس) أو يهودانه (من يهود).. أتذكر هذا الأمر كما أتذكر ما قاله رشيد رضا أبرز تلاميذ الإمام محمد عبده من أن الإنسان لا يعرف بطبيعته وفطرته التعصب إلا إذا وجد قبالته شخصا آخر يتعصب لدينه ويزدرى الأديان الأخري؟ أقول تذكرت هذا الشيء عندما قرأت خبرا يقول إن البابا فرانسيس بابا الفاتيكان سوف يمر على كوبا التى ظلت محرمة على الأديان نحو خمسين عاما وهو فى طريقه لزيارة أمريكا.. أى أن الدين سيدخل منذ الآن فصاعدا فى السياسة الخارجية للدول لأن بابا الفاتيكان ما كان سيفكر على هذا النحو لو ظلت كوبا فى عصر فيدل كاسترو الرئيس السابق مخلصة للشيوعية! وهذا أكبر دليل على استخدام الدين فى العلاقات بين الدول. فكوبا دولة مستقلة ذات سيادة وكذلك دولة الفاتيكان. ثم هناك مثل آخر من مصر هذه المرة عندما سافر البابا تواضروس مع وفد كنسى كبير إلى أرمينيا فى الذكرى المئوية لإبادة الشعب الأرمني. الذى كان يكرهه الأمبراطور العثمانى فى عام 1915 فقتل المئات وشرد الآلاف لا لشيء إلا لأن هؤلاء يدينون بدين آخر غير ديانة الامبراطور!! ثم لماذا نذهب إلى بعيد، وقد أصر الرئيس الأمريكى السابق على استخدام كلمة «صليبية» فى حديثه عن الشرق الأوسط والدين الاسلامي.. صحيح أن البيت الأبيض حاول تبرير ذلك بأنه زلة لسان.. لكن مجمل الأحداث السابقة واللاحقة تؤكد أن بوش الابن كان يقصد هذه العبارة فى ظاهرها وباطنها.. وما هذا الأمر إلا لى عنق الدين واستخدامه فى العلاقات بين الدول.. ثم كيف ننسى أن رئيس مصر فى عام 2012 عندما ملأ خطابه فى قمة عدم الانحياز بأحاديث نبوية وآيات من الذكر الحكيم ولم يكن ذلك سوى ادخال الدين فى السياسة الخارجية لمصر والعلاقات مع الدول الأخري.. ثم ما هى استراتيجية مكافحة الإرهاب سوى ادخال الدين فى السياسة بين الدول لأن الإرهاب وكل أشكال العنف إنما بنيت على التمييز بين الأديان.. ونسينا أن كل الأديان مصادرها واحدة وهى الذات الإلهية.. حتى الأديان الوضعية كما يقول علم تاريخ الأديان ليست إلا عبادة قوة غيبية تسكن الأبقار أو الأشجار.. أى هى الله سبحانه وتعالي.. باختصار إن عالم اليوم قد برع فى استخدام الدين فى السياسة الخارجية.. وكانت النتيجة أن شرد الآلاف وقتل الملايين وفتكت بهم أنواع الأسلحة والذخائر ودكتهم الطائرات دكا. والسبب هو اختلاف الأديان.. والذى يجب أن يوضع وراء القضبان هو العقل البشري.. الذى تفوق فى وسائل الفتك ونسى أن الإنسان أخو الإنسان وحامى حما عرضه وماله وبدنه!! لمزيد من مقالات د. سعيد اللاوندي