بعد أن كانت مصر قد طلبت من شيوخ مؤسستها الدينية أن يصلحوا لها أمر فقهها، فإنها لم تعد تقبل منهم بأقل من ثورة فى التعاطى مع موروثها الدينى على العموم. وهكذا فإنه إذا كان المجددون فى القرن التاسع عشر قد اكتفوا بمجرد طلب الإصلاح، فإن ورثتهم فى القرن الحادى والعشرين قد بلغوا إلى الدعوة من أجل الثورة بعد أن بدا لهم أن مرور أكثر من قرنٍ على طلب الإصلاح وممارسته لم يتمخض إلا عن انبعاثاتٍ متواترة لبراكين من العنف الدموى التى باتت تمثل خطراً داهماً على السلم الأهلى فى المجتمعات الإسلامية، بل على السلم فى العالم بأسره. واللافت للنظر فى الحالين أن الدولة كانت هى التى تبادر إلى طلب الإصلاح أو الثورة من المؤسسة التى جعلت من نفسها مجرد حارس على التقليد الدينى الموروث. يروى الأستاذ الإمام محمد عبده - بحسب ما ورد فى تاريخه الذى كتبه رشيد رضا - أن الخديوي إسماعيل كان هو الذى طلب فى القرن التاسع عشر من شيخ الأزهر وعلمائه أن يعملوا على تأليف كتاب فى الحقوق والعقوبات موافق لحال العصر، سهل العبارة، مُرتب المسائل على نحو ترتيب كتب القوانين الأوروبية، وكان رفضهم هذا الطلب هو السبب فى إنشاء المحاكم الأهلية التى جرى العمل فيها بقوانين فرنسا. ورغم أن الحكومة قد أبقت على المحاكم الشرعية (التى يجرى العمل فيها بأحكام الفقه الموروثة) إلى جوار المحاكم الأهلية (التى يجرى العمل فيها بقوانين فرنسا)، فإنه قد ظهر للناس - كما يقول الإمام - أن المحاكم التى يجرى العمل فيها بقانون فرنسا كانت أضمن للحقوق وأقرب للإنصاف من المحاكم التى تسند شريعتها للوحى السماوي، حتى كان علماء الأزهر وشيخه الأكبر يتحاكمون إليها بأنفسهم. وبالرغم من أن ذلك كان لابد أن يدفع بهؤلاء الشيوخ إلى التفاعل الايجابى مع دعاوى الإصلاح، فإنهم قد ظلوا - كما يقول الإمام - عقبة فى طريق الإصلاح الذى لابد من التأكيد على أن غيابه كان - على عكس ما يجرى الترويج له - هو المسئول عن إسقاط حكم الشريعة. وكالمُتوقع فإن هؤلاء الشيوخ لم ينظروا إلى عجزهم عن التفاعل مع دعوى الإصلاح على أنه جمودٌ هو المسئول عن إسقاط حكم الشريعة، بل اعتبروه من قبيل حماية الدين وحفظ الشريعة. ولعل جوهر الدرس هنا يتمثل فى أن التقاعس عن إنجاز الإصلاح لا يؤدى فقط إلى إعاقة التقدم الحاصل فى حياة الناس، بل إنه يؤدى إلى تهديد الموروث الدينى الذى تقوم المؤسسة على حراسته، وبما يهدد وجود المؤسسة ذاته. وبعد أكثر من قرن ونصف القرن على طلب الخديوى إسماعيل من المؤسسة إصلاح الفقه، فإن الرئيس السيسى هو الذى يدعو الآن إلى ثورة فى الموروث الديني. ورغم ما جرى من إعلان شيخ الأزهر وعلمائه للتجاوب مع هذه الدعوة إلى الثورة وتجديد الخطاب الديني، فإنه يبدو - ولسوء الحظ - أنهم لا يملكون ما هو أكثر من مجرد إعلان النوايا الطيبة. ويرتبط ذلك بأنه إذا كانت الثورة فى الدين وتجديد خطابه هى عملٌ معرفى فى الأساس، فإن عملاً كهذا يستلزم ممن يتصدون له أن يمتلكوا المنهجيات والأدوات المعرفية التى يتمكنون معها على إنجازه. ولسوء الحظ، فإن ما يصدر عن رجال المؤسسة إنما يكشف عن أنهم قد اختاروا الأيسر، حيث اكتفوا بمجرد ترديد المفاهيم من دون أدى وعيٍ بحمولاتها المعرفية التى يستحيل للمفاهيم أن تنتج فى غيابها. وكمثالٍ، فإنهم إذا كانوا لا يتوقفون عن ترديد مفهوم الخطاب - وهو أحد أكثر المفاهيم ثراءاً وخصوبة فى سياق التطورات المعرفية المعاصرة - فإنهم يستخدمونه بدلالة لا يتجاوز معها حدود مجرد الخطابة، وبحيث يبدو وكأن تجديد الخطاب لا يتجاوز مجرد تحديث الخطابة وأسلوب القول. إن ذلك يعنى أنهم لن يتجاوزوا ما فعل أسلافهم - على عصر الخديوي إسماعيل - الذين قبلوا بالتحاكم إلى محاكمه الأهلية الحديثة، ولكن مع الرفض الكامل للاقتراب من الموروث. وبالمثل فإن الشيوخ الآن قد قبلوا بترديد مفاهيم الخطاب والتجديد والثورة وغيرها، ولكن مع تفريغها من دلالاتها على النحو الذى يظل معه الموروث الدينى قائماً على حاله. وهنا فإنه إذا كان جمود الشيوخ الأوائل قد أدى إلى إسقاط الشريعة، وعلى النحو الذى اضطر معه الخديوي إسماعيل إلى العمل بشريعة نابليون، فإن مراوغة الشيوخ الحاليين لن تؤدى إلا إلى استمرار أصول التطرف والعنف قائمة على حالها. وهنا يلزم تبيين الفارق بين مصر التى كانت فى القرن التاسع عشر فى حاجة إلى مجرد إصلاح الفقه، وبين مصر التى تطلب الآن ثورة فى التعاطى مع الموروث الدينى كله. ولعل الفارق يتمثل فى أنه بينما كانت مصر فى ابتداء مغامرتها الحديثة مع الخديوي إسماعيل فى حاجة إلى مجرد نظامٍ قانوني - إجرائى يتسع لضروبٍ من المعاملات الرأسمالية التى كانت تنخرط فيها آنذاك، فإنها تبدو الآن فى مسيس الاحتياج إلى نظامٍ عقلي - تأسيسى تتمكن به من الاندماج الفاعل والمنتج مع الحداثة. وهنا يلزم التنويه بأن ضرورة الثورة على التقليد الدينى الموروث تأتى من أنه قد أنتج عقلاً مولِّداً للعنف لكونه غير قادرٍ على إدماج المسلمين فى العصر، لأنه ليس عقل إبداع، بل عقل تفكير بأصلٍ أو نموذجٍ جاهز. فإن هذا العقل هو النتاج النهائى لطريقة فى التعامل مع الوحي، لا على أنه نقطة بدء ينطلق منها الوعى إلى فهم العالم والتأثير فيه، بل بوصفه سلطة لابد من الخضوع لها. ولسوء الحظ فإن هذه الطريقة فى التعامل مع الوحى على أنه سلطة هى التى حددت بناء التقليد الدينى الموروث والسائد فى المجتمعات الإسلامية. وليس من شكٍ فى أن عقلاً يشتغل بنموذجٍ جاهز لن يعرف إلا أن يتنزَّل على واقعه بهذا النموذجٍ المكتمل الجاهز على نحو إكراهى وقسرى لابد أن يكون هو الرافد المُغذى لكل ضروب الإكراه والعنف التى تسود عوالم العرب. وهكذا فإن ثورة على التقليد الدينى الموروث هى فى جوهرها ثورة من أجل عقلٍ جديد تحتاج إليه مصر الآن. لمزيد من مقالات د.على مبروك