عاشوا حياتهم، واكتشفوا بعد بلوغهم خواتيمها، أنهم عاشوا خدعة كبرى، وكانوا أسرى خداع كثيرين، بعضهم من أقرب الناس إليهم، لكنهم لا يستطيعون الآن إلا لوم أنفسهم، فقد نبههم القرآن والسنة، وآيات الله في النفس، والكون، إلى لزوم الحذر، لكنهم لم يفعلوا. ورد ذكر "الخِداع" في القرآن الكريم صفةً للمنافقين، واليهود. ففي حق المنافقين قال تعالى: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً".(النساء: 142). وقال: "يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ".(البقرة: 9). وعن اليهود خاطب تعالى نبيه بالقول: " وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ".(الأنفال: 62).
قال العلماء: "ينطبق على الخِداع السنة الإلهية المستمرة، وهي أن الجزاء من جنس العمل، فهم يخادعون، ولا يخدعون، أي: لا ينجح خداعهم، لأنه تعالى محيط به، ويرده عليهم".
ولم يقل القرآن: "وما يعقلون"، بل قال: "وما يشعرون"، لأن الشعور أقل من العقل، ولأن الإنسان الذي يخدع الآخرين، لا يغيب عنه العقل فقط، وإنما الشعور أيضا.
"وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ"، يعني يهود بني قريظة، بأن يُظهروا لك السلم والصلح، ويُبطنوا الغدر والخيانة، لتكف عنهم، فاجنح، فالله كافيك بنصره، وما عليك من نياتهم الفاسدة، فهو -تعالى- يتولّى كفايتك، فقد أعانك بنصره يوم بدر، وسائر أيامك، بأسباب للنصر باطنة، بغير وسائط معلومة، و"بالمؤمنين"، وهم أسباب ظاهرة معلومة، أقامهم -سبحانه- لنصرك أيضا.
ولأن الإسلام دين عقل ودنيا، كما أنه دين وحي وآخرة، فقد جاء في حديث الرسول قوله: "الحرب خدعة"، حاثا على خداع الكفار في الحرب؛ لما في ذلك من أسباب النصر، بل إنه لم يرخص في شيء مما يقول الناس كذبا إلا في ثلاث: "الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها". إنه حديث يؤكد أن النبي أُعطي جوامع الكلم، فهو يتكلم بالكلمة الواحدة، التي تشمل المعاني الكثيرة، بحسب العلماء.
وتعود قصة الحديث إلى الصحابي "نعيم بن مسعود"، عندما أَسلم، ولم يعلم قومه بذلك، فأتى النبي يوم الخندق، فقال له: "مُرني بما شئت"، فقال له: "إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّلْ عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة"، فأَوقع "نعيم" الخلاف بين قُرَيظة وغَطَفان وقُرَيش، وخَذَّل بعضهم عن بعض. (قال الألباني: "ذكر ابن إسحاق هذه القصة بدون إسناد، لكن قول الرسول: "الحرب خدعة" صحيح متواتر، رواه الشيخان).