كان مفكرنا الفيلسوف الراحل زكى نجيب محمود يؤكد دائما أن دائرة السياسة متميزة بطبيعتها عن دائرة الدين، وأن أى خط بين الدائرتين مؤداه الكوارث على مستوى المجتمع والأفراد.هذا ما ذهب اليه الفيلسوف العظيم قبل نحو نصف قرن، فحقائق السياسى بالنسبة اليه والى آخرين نسبيا يمكن التحقق منها، بموجب معيار التحقق، فالسياسى حينما يعرض حقائق أو ينطلق منها يقر بتغيرها تبعا للزمان والمكان وبناء على موقعها البنيوى والوظيفة التى تؤديها، أما حقائق صاحب الدين التى هى فى واقع الأمر قناعات إيمانية، فلا تخضع لمعايير المفاهيم العقلية الوضعية، بل يتم التوصل إليها بناء على معطيات ايمانية تخص صاحبها دون الآخرين، وهى تظل تجربة فردية وجدانية تتمرد على سائر الجهود الرامية إلى اعطائها بعدا معرفيا يمكن اكتسابه أو تعليمه أو قياسه. لا يخفى على أحد أن الغرب فك الارتباط بين هاتين الدائرتين منذ قرون عدة، أما مجتمعاتنا العربية فمازالت تعيش أجواء الظاهرتين المتشابكتين المشار إليهما، وتفسير ذلك أن الانظمة الحالية ومعارضتها لم تتمكن بعد من اتخاذ المطلوب لفك هذا الاشتباك، الذى يمكن البناء عليه وتنميته، فقد عاشت مع معارضتها حالة خواء أو ارتباك بعد انهيار الأيديولوجيات التى كانت تلتحف بها أو تتمرس خلفها، ولكى تتجاوز واقع الإخفاقات المتتالية والمفاسد المتراكمة انطلق فريق من المعارضين بنفس انتقامى تدميرى يستلهم من التراث أقسى فصوله وأكثر أحداثه عنفا ودموية اعتقادا منهم بأن ذلك يجسد الحل الأمثل مع عوامل الهزائم المستدامة! والأنظمة هى الأخرى وجدت من جانبها بناء على هشاشة مواقعها وضحالة القوى الإقناعية لحججها أن التناغم مع الأطروحات «الإسلاموية» ربما يمكنها من امتلاك القوى التى تحتاجها نتيجة ضعفها البنيوى الشامل من الممكن أن تتباهى به ويجسد لها مسندا تتكيء عليه. وفى مجتمعاتنا العربية أزمة حقيقية فى العقل الدينى المتكلس مع الحداثة بطفرتها المعرفية والحضارية التى انتقلت بالحياة إلى طور حضارى غير مسبوق طاول الإنسان والزمان والمكان، وربما تفسر تلك الأزمة السؤال الذى يلح علينا طوال الوقت: لماذا نحن دون الخلق نسير فى اتجاه مضاد للحداثة فى تفكيرنا وتصرفاتنا وإدارتنا شئون حياتنا بإصرارنا على إلباس هذا الماضى البعيد لهذا الحاضر المعقد الذى يحتاج إلى آليات جديدة تتناسب مع تعقيداته. ويفسر أيضا لماذا اصبحنا فجأة نمارس التدين فى شكلياته أكثر من التمثيل بقيمه، وهو ما يستلزم وفق معتقداتنا فرض فهمنا الضيق لهذا الدين على الآخرين، متناسين بجهلنا أن هذا الدين يمارس المسلمون طقوسه فى أنحاء المعمورة دون عائق، بينما يمارس آخرون معتقداتهم بحرية كاملة بعيدا عن كل هذا الزخم الشكلى للتدين! وهذه هى الحال مع داعش وأخواتها إن أصبحنا معها فى واقع نخشى فيه أن يظهر فى كل قرية أو مدينة هؤلاء المغمورون من ناحية سطحيتهم الدينية ليعلنوا الخلافة والتسلط على رقاب الخلق باسم هذا الدين، الذى هو فى الأساس مبنى على قاعدة لا إكراه فى دخوله والإيمان به، ونسى هؤلاء أنهم غير مسئولين بالمرة عن تطبيق شرع الله، والآيات القرآنية فى ذلك حاسمة «لكم دينكم ولى دين»، «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، « إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء». فلماذا هذا التخلف الذى يتجلى فى أبرز صوره فى الحالة الهلامية من التدين المصطنع المقرون بادعاء امتلاك الحقيقة ممن وجدوا فى التحريم والتحليل سلطة يفرضونها على رقاب الخلق! وهذا المأزق فى المجتمعات العربية له أسباب كثيرة إلا أننا يمكن ان نراه متبلورا فى فشل المشروع التحديثى العربى بأبعاده المختلفة خصوصا البعدين السياسى والثقافي، فما نشهده الآن من كوارث تتحمل جزءا كبيرا منه «السلطوية السياسية» التى حكمت هذه المجتمعات (أنا أو الفوضي)، فتم تغييب العقلانية بدل الاهتمام بالتعليم والثقافة والآداب والحريات العامة، ليصبح عقل هذه الجموع أسيرا لتلك المظهرية من التدين الزائف عن طريق خطاب دينى يكرر ما يقال من قرون عدة دون أن يتجدد وعى من يتولون تسويقه كل يوم جمعة وعبر تكنولوجيا الحداثة نفسها ممثلة فى الفضائيات وثورة المعلومات، وهكذا أصبح دليلا على الجهل المقيت لمجتمعات تأبى السير إلى الأمام بعقولها وتستسلم لهؤلاء ليرجعوها الى الماضى السحيق. وتندهش عند قراءة خلفيات المنتمين الى هذه التنظيمات، فبالبداية كانت الدروس الدينية التى تزرع كل ما هو معاد للبشر قتلا وتدميرا تحت ذريعة تطبيق شرع الله! ليتدرجوا من التطرف إلى قطع الرقاب على الطريقة الداعشية، ومن يسير على نهجهم، حتى أصبح التحديث والتعليم وكل ما هو جديد بدعة عندهم وازداد تجلى هذه الصورة فى ازدواجية من يؤمن بهذه الأفكار ويدرس العلوم الحديثة من طب وهندسة وبرمجيات وغيرها ثم يهملها ويتحول إلى «داعية» يحصر عقله بين الحلال والحرام، ليمحو عن نفسه وزر دراسته تلك المعرفة الحديثة؟! والنتيجة أجيال مشوهة من ناحية التفكير تعيش الحاضر بعقلية الماضي، بدلا من أن تفكر فى المستقبل وتعايش الواقع بمشكلاته. فهل من يقطع الرءوس ويستخدم أحدث التقنيات التى أبدعتها الحداثة فى تصويرها يدرك هذا التناقض، الذى يحول الحداثة إلى وسيلة لقتل الوجود نفسه، المتمثل فى الإنسان بقيمه وعقله وأفكاره وإبداعاته؟! د. عماد إسماعيل