جاءت ثورة 25 يناير لتصحيح مسار الحياة في مصر بكافة أشكالها؛ والقضاء على الفساد والتزوير، وتحقيق المساواة ونشر قيم العدل لجميع أفراد الشعب.. لكن يبدو أننا لانزال نحتاج لمائة ثورة حتى نصحح مسار أنفسنا.. فقد فوجئنا منذ أيام بأن الحكومة تدرس عرضًا من بعض رموز النظام البائد المسجونين في طرة بالتنازل عن بعض ثرواتهم مقابل تصالح الحكومة في الدعاوى القضائية المرفوعة ضدهم والمتعلقة بالفساد المالي، ومنهم رجل الأعمال السابق أحمد عز. والحقيقة أن مجرد التفكير حتى من قبل الحكومة في مثل هذا العرض هو أمر مخيب للآمال.. فبأي يحق يدرسون ويتشاورون؟! ألا يدرون أن هؤلاء المسجونين ارتكبوا جرائم فساد مجتمعي متمثلة في جرائم الاستيلاء على المال العام والتربح غير المشروع... ألا تفكر الحكومة أنها لو قبلت بذلك العرض فبذلك سنرجع للخلف ولنفس منطق الفساد القديم الذي عانينا منه أكثر من 30 عامًا، وكأننا لم نقم بثورة ولم تتغير نفوسنا المريضة التي تلهث وراء شهوة المال مقابل السكوت.. شراء البراءة مقابل أموال.. يا لنفوسنا!! ألف خسارة على أناس يرضون بشراء الضمائر مقابل بعض الأموال التي لن تجلب للشعب المصري سوى الخزي والعار.. وإهدار كرامة وطن وسيادة القانون. إن الحكومة ترى، ويتفق كثيرون معها، أن هناك أزمة اقتصادية طاحنة تكاد تعصف بمصر، وأن تلك فرصة سانحة ثمينة لحل تلك الأزمة، فلا جدوى من المحاكمات وروتينها الطويل، وأن إرجاع الأموال المهربة من الخارج سيمر بمراحل وإجراءات طويلة الأمد.. ثم ماذا سيستفيد الشعب من محاكماتهم وقضائهم بالسجن سنوات؟! فيختصرون بذلك على أنفسهم المسافة بذلك العرض المغري؛ وهو الأموال مقابل التصالح والبراءة... لقد عجزت الحكومة عن إيجاد حلول للمشكلة الاقتصادية التي تعانى منها مصر، ووجدت الحل أمامها فجأة بدون أي مقدمات.. لكن المسألة برمتها هي مسألة مبدأ؛ وليست رد الأموال المنهوبة فحسب. كل من أفسد وأضر بالحياة السياسية وبالدولة وأموالها لا بد أن يحاسب وتتم محاكمته، فلا تصالح مع من نهب أموال الشعب واستحلها لنفسه، وعاش عيشًا رغيدًا ولم يكترث بالشعب من حوله الذي كان يجوع ويشقى ويمرض ويسكن العشوائيات والمقابر.. ولا للتصالح مع من تسبب في قتل أي شهيد من شهداء الثورة؛ لأن التصالح يشترط أن يكون الطرف المتصالح مفوضًا من أولياء الدم وأصحاب المال. إن قبول تسليم الأموال المهربة مقابل الصلح والبراءة سيوقعنا في مشاكل لا حصر لها، وأولها فتح الطريق لمزيد من عمليات الفساد في المستقبل، والسماح لأي مجرم ميسور الحال بارتكاب الجرائم والسرقات والرشوة... ناهيك عن إثارة البلبلة في المجتمع المصري.. والنهاية معروفة هي دفع الأموال مقابل البراءة.. أما إذا ارتكب جناة فقراء تلك الجرائم فإن مصيرهم هو السجن والإعدام؛ لأنهم لا يملكون المال!! إن إجراء مثل هذه المصالحات إهدار لحق المجتمع، وتهديد صارخ لدولة القانون الذي يسعى الجميع إلى تأسيسها. لذلك يجب على المسئولين الإسراع والمصادقة على المحاكمات؛ حتى يكون ذلك رادعًا لكل شخص تسوّل له بانتهاك القانون، واستباحة المال العام، واحتكار الصناعة، وشراء الأراضي بثمن بخس، والإخلال بالمجتمع من خلال نهب ثرواته دون رقيب وبمنأى عن أي وازع أو ضمير. فلا أحد فوق القانون.. يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه, وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) صدقت يا رسول الله.. يا ليت القضاة وأولي الأمر يتخذون من أقوالك أسوة حسنة. [email protected] المزيد من مقالات أحمد مصطفى سلامة