لم نعد نملك ترف التنظير والاستغراق فى بحوث التأصيل السياسى لمفهوم الدولة المدنية، والدخول فى جدالات تتحول فى أغلبها إلى ملاسنات، بعدما اقتحم دعاة الدولة الدينية المشهد واختطفوا المصطلح وأعلنوا قبولهم له، بل ذهبوا إلى أنهم أولى به، وأن دولتهم المغرقة فى التأسيس على قواعد ورؤى دينية هى دولة مدنية بجملتها. ويدق هذا الأمر ونحن نجتاز مضيق الخروج من مناخ الأزمة المزمنة الى براح التنمية وتصحيح المعادلة الاقتصادية وبناء وطن جديد يحقق المطلب الشعبى الأثير »عيش، حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية«، فى مواجهة ترصد لا يلين من الجماعات الكارهة للحياة والتى اصابها مس من الجنون فراحت تروع الآمنين بسلسلة تفجيرات تسعى لزعزعة ثقة العالم فى قدرة مصر على حماية استثمارته، وثقة المصريين فى قيادتهم وقدرتهم على حماية الوطن وأمنهم وسلامهم. ولا يمكن بحال أن نحصر المواجهة فى الإطار الأمنى وحده، خاصة وأننا إزاء صراع تجاوز الأطر السياسية ليصبح صداماً بين الحق فى الحياة لحساب المستقبل وبين اختطاف وطن بجملته لحساب الارتداد الى ما قبل الدولة، والأخير تدعمه قوى إقليمية ودولية تستهدف اعادة رسم خريطة المنطقة ليس فقط لتفكيك قواها لكنه ايضا لإضفاء المشروعية على الكيان الصهيونى الذى تأسس على أسس دينية أحادية، بخلق كيانات مثيلة بغطاءات دينية موازية، يسقط معها إتهامه بالعنصرية. وعندما اندلعت ثورة 30 يونيو 2013 كان هدفها استرداد الوطن بعد تجربة سنة الجماعة الإرهابية التى شهدت تسارعا فى تفكيك »الدولة« لحساب »الأمة«، فى تأكيد على توجه الإنتقال من المدنى إلى الديني، وإعادة انتاج دولة الخلافة،وكان التحضير لإمارة سيناء وتوطين عناصر حماس فيها، وفى الجنوب التنازل عن حلايب وشلاتين، مؤشرات لهذا التوجه. وسقط حزب الجماعة بحكم قضائى مع سقوط نظامها، بينما سارعت الأحزاب السلفية التى تشكل بقية منظومة الأحزاب الدينية بإعلان تأييدها للثورة وحجزت لها مكانا متقدما فى مشهد 3 يوليو، فى مناورة سياسية تضمن لها البقاء، وتقيها مصير حزب الجماعة، وتروج لأنها مدنية وتؤمن بالدولة المدنية، حتى لا تتطالها محاذير المادة 73 التى تحظر قيام احزاب على أساس ديني، وإن احتفظت بمرجعيتها الدينية، التى لم تعد عائقاً خاصة بعد ان سقطت هذه الكلمة عمداً من نص هذه المادة، فى صيغتها النهائية، ولا أعرف الفرق بين المرجعية الدينية والأساس الديني، خاصة وأن ممارسات هذه الأحزاب على الأرض تؤكد اساسها الديني، بعيداً عن الاستيفاء الشكلى للإطار المدني. وفى هذا السياق أعرض واقعة وحالة ونصا أما الواقعة فهى ما أعلن عن رفض الجماعات السلفية فى المنيا لإعادة بناء كنيسة صغيرة بواحدة من قراها إلا بشروط تعجيزية من هذه الجماعات،تحدد المساحة والإرتفاعات وتجعل مدخلها من الشارع الجانبى وتفرض وجود مهندس من جانبها للتأكد من ان اساساتها لا تتحمل غير طابق واحد، وتمنع اعادة بنائها إذا تعرضت للانهيار (!!)، فى اعتداء سافر على سلطة الدولة وفى تحد للقانون، ورضوخ السلطات المحلية لهم، فى إقرار للأمر الواقع، تحت زعم أن متطلبات الأمن تفرض ذلك. وهذه الواقعة غير منبتة الصلة بحالة الكيانات الحزبية الدينية، التى تؤسس لشيوع ثقافة تحقير وازدراء من ينتمون للأديان الأخري، والتى تحفل بها مواقف وتصريحات قياداتها، عبر الفضائيات او مواقع التواصل الإجتماعي، والتى تتجاوز فضاء مقارنة الأديان وتخرج خارج قاعات المعاهد الدينية، وفى القراءة السياسية هل يمكن الفصل بين مواقف وآراء قيادات هذه الأحزاب وبين مسارات احزابهم؟، ومن ثم ألا تعد المواقف والتصريحات هذه مؤشراً على ما سوف تتبناه هذه الأحزاب حال وصولهم مجددا للسلطة، أو نجاحهم فى احتلال نسبة من مقاعد البرلمان سواء فى صفوف المعارضة أو الأغلبية، ونصبح أمام إعادة انتاج لحالة ما قبل 30 يونيو؟. أما النص فقد جاء فى القرار بقانون رقم 8 لسنة 2015،بشأن تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، والذى يعرف الكيان الإرهابى بأنه »الجمعيات أو المنظمات أو الجماعات أو العصابات أو الخلايا أو غيرها من التجمعات أيا كان شكلها القانونى أو الواقعي، متى مارست أو كان الغرض منها الدعوة بأية وسيلة داخل أو خارج البلاد إلى إيذاء الأفراد وإلقاء الرعب بينهم، أو تعريض حياتهم أو حرياتهم أو حقوقهم أو أمنهم للخطر أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بالمواد الطبيعية أو بالآثار أو بالاتصالات أو المواصلات البرية أو الجوية أو البحرية أو بالأموال أو بالمبانى أو بالأملاك العامة أو الخاصة أو احتلالها أو الاستيلاء عليها أو منع أو عرقلة السلطات العامة أو الجهات أو الهيئات القضائية أو مصالح الحكومة، أو الوحدات المحلية أو دور العبادة أو المستشفيات أو مؤسسات ومعاهد العلم، أو غيرها من المرافق العامة، أو البعثات الدبلوماسية والقنصلية، أو المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية فى مصر من القيام بعملها أو ممارستها لكل أو بعض أوجه نشاطها أو مقاومتها«. ويعرف الإرهابى بأنه »كل شخص طبيعى يرتكب أو يشرع فى ارتكاب أو يحضر أو يهدد او يخطط فى الداخل أو الخارج لجريمة إرهابية بأية وسيلة كانت، ولو بشكل منفرد، أو يسهم فى هذه الجريمة فى إطار مشروع إجرامى مشترك، أو تولى قيادة أو زعامة أو إدارة أو انشاء أو تأسيس أو اشتراك فى عضوية أى من الكيانات الإرهابية المنصوص عليها فى المادة رقم 1 من هذا القانون أو قام بتمويلها، أو أسهم فى نشاطها مع علمه بذلك«. وبين الواقعة والحالة والنص تتضح أبعاد الأزمة التى نعيشها، فنحن أمام نص واضح وواقعة تقع فى دائرته وأحزاب ينطبق عليها توصيف الكيان الإرهابي، وفى المقابل نجد صمتا مطبقا من السلطة التنفيذية تجاه المكارثية الجديدة التى تمارس إرهابها علناً. الدولة المدنية هى بالأساس دولة المواطنة التى تنبنى على المساواة والعدالة والحرية، والتى توفر الحقوق وتفرض الواجبات على مواطنها بعيداً عن التمايزات الدينية والعرقية والإقتصادية، والتى تعلى من شأن سيادة القانون، لذلك فوجود الأحزاب القائمة على اساس دينى أو بمرجعية دينية يعد انتقاصاً من الدولة المدنية والتفافاً عليها، وبات من المحتم مواجهتها وعدم الاعتراف بها، إذا كنا جادين فى بناء دولة حديثة قوامها المواطن لكونه مواطناً. لمزيد من مقالات كمال زاخر موسى