سأله شاب نابه من كلية العلوم السياسية سؤالًا ذكياً ، في ختام المؤتمر الصحفي عقب افتتاح مهرجان الإسكندرية الدولي للكتاب ، فقال له : " لماذا يامعالي الوزير لايتقبل شباب اليوم الفكر التنويري بسهولة ؟!" فجاءت إجابته سريعة قاطعة وحاسمة : "لأن الاستبداد السياسي سبب توغل الإخوان في حياة المصريين ، مما خلق حالة مستفزة من التعصب الديني ، استفحلت حتى وصلت الآن إلى الإرهاب !!" واستطرد : " وهل تعتقد أن الدولة اختارتني لسواد عيوني ، بالعكس مخطئ من يعتقد ذلك ، فقد جئت لهدف واحد فقط ، وعملت على تنفيذه بشتى الطرق ، وهو التنوير ، الذي وضعت لبنته ، ليسير عليه اللاحقون من بعدي " .
من أول يوم تولى فيه منصب الوزير ، حمل عصفور على كتفيه تركة ثقيلة من الفساد والروتين والإرهاب ، لكنه تحملها بجسارة ، ودأب ، رغم انتقاد كثيرين لشخصه ، وسبح في الماء الراكد بقوة ، على مركب التنوير الذي قاده بنفسه ، وحدد مساره للآخرين من رؤساء القطاعات ، فساروا خلفه .
ولأنه تولى المنصب في ظروف عصيبة ، تتعرض فيها البلاد لموجة عاتية من الإرهاب المنظم ، فكانت المسيرة الثقافية صعبة للغاية ، لكنه قادها بمنتهى الاقتدار ، مستخدماً كل ملكاته الشخصية ، وخبرة الزمن الطويل التي أفناها في محراب الثقافة أستاذاً أكاديمياً ، وناقداً مرموقاً ، وعالماً فذاً يشار إليه بالبنان ، كأحد أكبر المفكرين في الوطن العربي بأسره .
لملم شتات الثقافة المصرية ، وأرسى لها سياسة محددة ، تقوم على التعاون المشترك ، مع باقي وزارات الدولة ، من خلال إبرام عدة بروتوكولات ، ذات أهداف وطنية محددة ، لأول مرة في تاريخ الوزارة ، وكلها تحت مظلة الدولة ، بقيادة السيسي ، فدفع بقارب الثقافة بقوة في مسيرة مصر نحو الدولة المدنية الحديثة ، القائمة على العدالة المجتمعية ، وحرية الرأي ، واحترام الآخر ، والمساواة ، والمواطنة .
ورغم أن المسئولية كانت جسيمة ، فإن عصفور اخترق الصعاب ، وحرك المياه الراكدة ، وبدأ تحقيق أصعب مهمة في السنوات العجاف التي تعيشها البلاد، وهي انتشال الوطن من براثن التعصب ، والتطرف الديني ، الذي لم يعرفها قط طوال تاريخه ، فأعاد اللُّحمة بين قطبي الأمة ، وكان مشهدًا إنسانيًّا وطنيًّا رائعًا ، وهو يحضر بنفسه ، وقيادات الثقافة ، وجموع المثقفين ، حفلًا مُبهرًا في بورسعيد لشبابها من المسيحيين ، جنبًا إلى جنب رموز الكنيسة .
وانطلق إلى أبعد مدى ، محاولًا القضاء على المركزية الثقافية في القاهرة ، واحتكار مثقفيها للمشهد ، والوصول بالمعرفة والثقافة والفن ، المغلفة بالتوعية ، والتنوير ، لأعماق القرى ، والمراكز ، في جميع المحافظات ، وخاصة النائية ، والمحرومة، وكذلك العشوائيات في المدن ، حيث الفقراء ، والمساكين ، والأميين ، لإرساء المساواة الثقافية بين جميع فئات المجتمع ، ونجح في ذلك بمجموعة من القوافل الثقافية ، والمتحف الجوال ، فضلا عن مشاريع التطوير والتحديث التي غطت المراكز الثقافية ، في ربوع البلاد ، بطولها ، وعرضها ، ليعيد دورها القومي المجيد في تاريخ الثقافة المصرية ، في اكتشاف المواهب ، وولادة النوابغ في الريف .
ولم يألُ جهدًا في إحياء الجمال ، من جديد ، في عيون المصريين ، وزرع طاقة الحياة في نفوسهم لمقاومة الحوادث الإرهابية ، بخطط الترميم ، والتطوير ، والصيانة ، للمتاحف العريقة ، كمتحف محمود سعيد بالإسكندرية ، وقصر الأميرة عائشة فهمي ، والجزيرة ، وغيرها ، لترجع ، كسابق عهدها ، منارات للفن التشكيلي ، تذكر الأجيال الجديدة بريادة مصرنا في هذا الفن العريق عربياًا ، وعالميًّا ، وتخلّد ذكرى روادنا الأوائل ، وتحمي تراثنا التشكيلي من سوء الدمار .
وكانت درة افتتاحاته ، التي كللت تعبه ، وسعيه الدؤوب ، بلا كلل أو ملل ، الافتتاح العظيم للمسرح القومي بالعتبة ، الذى عاد ، في أروع وأبهى صورة ، أكبر مركز إشعاع فني في مصر ، وسط فرحة أهل الفن ، والثقافة ، ومن قبلهم الشعب .
ولم ينس عصفور الكتاب ، القيمة الحقيقية للثقافة ، فكانت الدورة السادسة والأربعين من تاريخ معرض القاهرة الدولي للكتاب دورة تاريخية بتنوع وتعدد المشاركين من كل دول العالم ، وثراء اصداراتهم ، وتنوعها في كل المجالات ، وزخم الندوات والعروض الفنية على كل لون ، فكانت وجبة ثقافية فنية ادبية دسمة ، عززها بفتح أكشاك في الجامعات المصرية لبيع إصدارات الوزارة ، وقطاعاتها بأسعار الماضي الزهيدة ، ليخلصنا من "الخريج الأُمِّي" ، وبدأ يعد العدة لافتتاح مركز المعلومات الدولي في وسط البلد ، وتجهيزه بأفخم التجهيزات ، ليصبح أكبر مكتبة في الوطن العربي ، والشرق الأوسط ، ورفع قيمة جوائز المسابقات ، والمهرجانات الأدبية والثقافية الكبيرة كالترجمة ، والشعر ، والرواية ، وأحتضن الأولى ، ليضخ الدماء في شرايين التراجم المصرية ، ويوسع أفق العقل والفكر المصري ، بالاطلاع ، والاستفادة من كنوز المعرفة في كبرى الدول ، ويتعرف من خلالها إلى ثقافاتهم ، لينتج إنسانًا مصريًّا جديدًا متسلحًا بالعلم ، والمعرفة .
طريق إنجازات عصفور طويل ، برغم كل سهام النقد ، التي انهالت عليه ، منذ وضع قدمه في الوزارة ، سواء بقصد أو بدون ، بفهم أو غشم ، لكن يكفيه أنه حاول ، واجتهد ، ونجح ، فيما فشل فيه آخرون قبله ، وكان يدهش كل من حوله بنشاطه العجيب ، وحماسه المذهل ، وطاقته التى لم تتوقف للحظة للعمل ، والإنجاز ، وهو شيخٌ جاوز السبعين ، وأعتقد أن وطنيته الخالصة في الفترة التي قضاها وزيرًا تشفع له أي مساوئ ، فشكرًا جزيلًا عصفور الثقافة على كل ماتحملت ، وأنجزت ، وسنذكرك دومًا بالفخر والإعزاز ، فلم تكن بالنسبة لي نِعْمَ المسئول وحسب بل كنت لي مثل الأب " السند والونس" .. متعك الله بالصحة والعمر المديد لتبقى لنا د. جابر عصفور .. القيمة والقامة . [email protected] لمزيد من مقالات ياسر بهيج