انطلاقاً من أنهم لا يعرفون إلا التفكير بسلفٍ يكون الناس مجرد أطيافٍ له، فإن الكثيرين من وجوه النخبة الدينية اللامعة فى مصر لا يفعلون- بإزاء ما تبعثره فيالق الإسلام السياسى من نيرانٍ ودماء- إلا الانشغال بالبحث عن سلفٍ يكون هو الحاضن لكل ما يقترفونه من جرائم نكراء. وضمن هذا السياق فإنهم قد حافظوا على أصول التقليد المستقر من اعتبار «الخوارج» هم هذا السلف الذى لا وجود لغيره ممن يمكن أن يحمل على كاهله وزر العنف المُقدَّس. ولسوء الحظ، فإن هذا الاعتياد على إرجاع وصمة كل عنفٍ فى الإسلام إلى الخوارج قد تحوَّل إلى عائقٍ أمام إنتاج فهمٍ لأصول هذا العنف على النحو الذى يمهِّد لرفعه. فقد أصبح الخوارج يحضرون كمفسِّرة ميكانيكية جاهزة للعنف؛ وبكيفية غاب معها الوعى بأن هناك أصولاً مفاهيمية متخفية تؤسس له، ويصعب القضاء عليه من دون تفكيكها. ولأن مفهوم «الحاكمية» يكاد أن يكون الأكثر إنتاجاً للعنف، فإن تفكيكاً له يكون هو المطلوب لا محالة. ورغم ما شاع من نسبة هذا المفهوم إلى الخوارج، فإن الذهاب إليهم بهذا المفهوم- بالصورة التى وصل عليها إلى العصر الحديث- يبدو حكماً متعسفاً يفضحه التحليل. فإنهم قد استخدموا مفهوم «الحكم» بمعنى القضاء بين طرفين متنازعين؛ وهو المعنى الذى عرفوه فى زمانهم بحسب ما ينطق به الاستخدام القرآنى له. ولعل ذلك ما يؤكده أن المفهوم قد انبثق فعلاً فى إطار التنازع بين طائفتين من المسلمين رأى الخوارج أنه لا مخرج من الاقتتال الدامى بينهما إلا بأن يكون تنازعهما موضوعاً لحكمٍ وقضاء. إن ذلك يعنى أنهم لم يرفعوا المفهوم ليحاربوا به حكومة يعترضون عليها بأنها لا تحكم بما أنزل الله على نحو ما يفعل الحاملون لمفهوم الحاكمية فى اللحظة الراهنة، بل رفعوه إعلاءً لمبدأ التحاكم بين المتنازعين حقناً لدمائهم. ولهذا فإنه إذا كان لابد سلفٍ يجد عندهم مفهوم «الحاكمية» ما يؤسسه، فإن هذا السلف لن يكون الخوارج، بل إنه سوف يكون ابن تيمية؛ وبالذات فى نظريته عن التوحيد. والمُلاحظ أن هذه النظرية هى الأساس الغائر الذى يتكأ عليه كل الذين يرفعون راية الحاكمية. فقد دشن ابن تيمية ذلك التمييز بين ضربين من التوحيد؛ أحدهما هو «توحيد الربوبية» الذى يعنى الإقرار بأن الله هو الخالق والمُدبر والمُحيى والمُميت وغيرها، والآخر هو «توحيد الألوهية» الذى يعنى وجوب إفراد الله وحده بالعبادة من دون شريك؛ وبما يترتب على ذلك من وجوب أن تكون الحاكمية لله لأن جعلها لغيره سيكون نوعاً من الشرك به. ولقد كان هذا التصور للتوحيد هو نفس ما تبناه، وعلى نحوٍ كامل، الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبو الأعلى المودودى وسيد قطب الذين رفعوا جميعاً راية «الحاكمية». يقول المودودى فى كتاب «المصطلحات الأربعة» الذى خصصه لهذا التمييز بين نوعى التوحيد: «ألم تر أنه بينما جاء فى القرآن أن الله تعالى لا شريك له فى الخلق وتقدير الأشياء وتدبير نظام العالم (وهو توحيد الربوبية)، جاء معه أن الله له الحكم وله المُلك، وليس له شريك فيهما، مما يدل دلالة واضحة على أن الألوهية تشتمل على معانى الحكم والمُلك أيضاً، وأنه مما يستلزمه توحيد الإله (الألوهية) ألا يُشرك بالله تعالى فى هذه المعانى كذلك». وهكذا فإن «الذى يدَّعى أنه مالك المُلك والمسيطر القاهر والحاكم المطلق بالمعانى السياسية، فإن دعواه إذن كدعوى الألوهية». وغنيٌّ عن البيان أن سيد قطب قد فعل الشيء نفسه، وأسند «الحاكمية» إلى ما قال إنه «توحيد الألوهية». وهنا يلزم التنويه بأن نظرية ابن تيمية فى توحيد الألوهية التى انبنى عليها مفهوم «الحاكمية» إنما تجد ما يؤسس لها، وعلى نحوٍ كامل، فى المفهوم الأشعرى عن الإنسان باعتباره- حسب نظرية الكسب الأشعرية- مجرد فاعلٍ بالمجاز وليس بالحقيقة. ولعل ذلك ما يكشف عنه أن مفهوم الحاكمية يتفرَّع، عند سيد قطب، عن أحد أكثر المفاهيم المركزية فى خطابه؛ وهو مفهوم العبودية المطلقة لله وحده. وهو يرى أن هذه العبودية تتمثل فى أن يكون الإنسان مجرد «مُتلقي» فى كل أحوال وجوده؛ وبما يعنيه ذلك من أنه ليس أهلاً لأن يفكر أو يفعل بذاته. فإنه يحضر فى العالم منفعلاً وليس فاعلاً، ومتلقياً وليس مفكراً. وإذ يبدو هكذا أن البشر يحضرون فى خطاب الحاكمية، لا بما هم «ذوات» فاعلة ومؤثرة، بل بوصفهم «أدوات» ينحصر دورها فى تحقيق خطة جاهزة ومُعدَّة سلفاً (سواء من الله أو غيره)، فإنه ليس من شكٍ أبداً فى أن هذا النوع من الحضور هو جوهر ما تنتهى إليه نظرية الكسب الأشعري. ويعنى ذلك، بطبيعة الحال، أن مفهوم الحاكمية هو بمثابة المآل النهائى الذى تؤول إليه نظرية الكسب الأشعري؛ وبما يترتب على ذلك من أن محاصرة مفهوم «الحاكمية» لن تكون ممكنةٌ حقاً ما لم يتم التعامل مع نظرية الكسب الأشعري، وبيان ما ينتهى إليه هذا الكسب- عبر نسبة كل ما يصدر عن الإنسان إلى الله بوصفه هو الفاعل له على الحقيقة- من تهديدٍ للذات الإلهية نفسها عبر تحويلها إلى قناعٍ يتخفى خلفه الطغاة والمحتكرون والقتلة بادعاء أن كل ما يصدر عنهم من أفعال الطغيان هو من الله فى الحقيقة، وهم فقط مجرد أدواته فى إتيان هذه الأفعال البغيضة. وربما كان فى ذلك تفسيراً لحقيقة أن فيالق الجهاديين المعاصرين لا تخرج فقط من البلدان التى تسود فيها الحنبلية، بل إن قسماً منهم- وفيهم القادة والقائمون على إنتاج الفتاوى والأسانيد الشرعية- ينتسبون إلى بلدانٍ تغلب فيها الأشعرية. لمزيد من مقالات د.على مبروك