وفَّرت المجتمعات الغربيَّة لأصحابها الرفاهية والمتعة والطعام والشراب، لكنها دمرت الإنسانيَّة والطمأنينة الاجتماعيَّة والأمان والكثير من القِيَم الأخلاقيَّة، فقطعت الأرحام، وما عرفت للوالدين حقًّا ولا فضلاً، بل سنَّت لهم سُنَّة أن يُلقوا في دُور المسنين حتى يتوفَّاهم الله، ولا مانع من أن يتصل بهم أبناؤهم في المناسبات، أو يرسلوا إليهم برقيَّات تهنئة مرة أو مرتين في العام! ولا بد أن نعلم أن الله عز وجل قد حثَّنا على طاعة الوالدين، وقرنها بتوحيده سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 24]. ولقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقوق الوالدين بالشرك بالله؛ حيث قال: "إن من أكبر الكبائر الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس؛ وما حلف حالف بالله يمين صبر، فأدخل فيها مثل جناح بعوضة، إلا جعلت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة"؛ أخرجه أحمد في مسنده، والترمذي، وابن حِبَّان في صحيحه. وحتى لو وصل الأمر بالوالدين إلى الكفر، فلا بد من الأدب معهما، ومصاحبتهما في الدنيا بالمعروف؛ كما قال ربنا جل وعلا: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8]، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15]، فلا بد إذًا من الأدب معهما في كل الأحوال، حتى لو وصل الحال إلى الكفر والشرك، فلهما حقُّ البرِّ والمصاحبة. نعلم جميعًا قصة الصحابي الذي جاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: "أحيٌّ والداك؟" قال: نعم، قال: "ارجع ففيهما فجاهد". هكذا يعلمنا الحبيب عليه السلام قيمة بِرِّ الوالدين، بل يجعله أهم من الرِّباط والجهاد في سبيل الله، وهذا بالطبع إذا لم يتعيَّن عليه الجهاد بأن كان جهاد تطوُّع. نعلم جميعًا قصة أصحاب الصخرة الثلاثة الذين دخلوا غارًا، فوقعت صخرة على بابه فأغلقته؛ فتوسَّل كلٌّ منهم بأحب الأعمال إلى الله، وكان منهم من توسَّل ببرِّه لوالديه؛ حيث كان له أبوان كبيران، وكان يرعى غنمه ويذهب إليهما باللبن؛ كي يتناولا عشاءهما، فذهب إليهما ذات مرة فوجدهما نائمين، فظل يحمل إناء اللبن على يديه، وأولاده تحت قدميه يتضورون جوعًا، ولم يرد أن يزعج والديه حتى استيقظا، فتقرَّب إلى الله بهذا العمل، فانفرجت الصخرة، واستجاب الله له دعاءَه ببركة بِرِّه لوالديه. لمزيد من مقالات د . جمال عبد الناصر