مع بداية الحرب الباردة في عام 1945 أصدر الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905-1980) مجلةاسمها العصور الحديثة في أغسطس من ذلك العام. وهذا العنوان ترديد لاسم فيلم قام بتمثيله شارلي شابلن. وقيل وقتها إن هذه المجلة هي بديل لمجلة كان يرأس تحريرها الروائي الفرنسي أندريه جيد وكان اسمها المجلة الفرنسية الجديدة وكانت تدافع عن المحتل النازي لفرنسا. وفي مفتتح العدد الأول من مجلة العصور الحديثة قال سارتر: إن غاية المجلة نشر الأدب الملتزم, والالتزام يعني أن الفرد مسئول عن اصدار قراراته عن وعي ليلتزم أدبيا بالإتيان بأفعال مفيدة. ومعني ذلك أن سارتر كان ضد المذهب القائل بأن الفن للفن وليس لأي شيء آخر غير الفن,كما أنه كان يرفض الالتزام بالقيم الموروثة. ولكنه مع ذلك لم يكن يقف عند حد الرفض بل كان متجاوزا له إلي حد تأسيس قيم جديدة يلتزم بها ويلزم بها الآخرين. وبالرغم من أن هذه القيم من صنع الفرد إلا أنها من صنع البشر أجمعين لأن الفرد وهو يشرع لنفسه يشرع للبشرية كلها. ولهذا يقول سارتر اعمل كما لو كنت مشرعا للقانون. ويقول أيضا إنه في كل هذا الذي يقوله عن الالتزام يتسق مع الالتزام لدي الماركسية, ومن ثم يلزم الانحياز إليها. ومن هنا كان شعار مجلة العصر الحديثة: الانسان ملتزم ككل وحر ككل. والانسان من أجل أن يكون كذلك عليه أن يحقق ذاته, وهو لن يحقق ذاته إلا بأن يختار حتي يكون موجودا. ولكي يكون كذلك عليه أن يتحرر من الطبقة الرأسمالية. وهذه هي الوجوديةعلي نحو ما يراها سارتر. واللافت للانتباه هاهنا أن الحرب الثقافية اخترقت مجلة العصور الحديثة. فقد انشق أحد أعضاء هيئة التحرير بسبب انحياز سارتر إلي الشيوعية. وهذا المنشق اسمه ريمون آرون. والسؤال اذن: وما علاقته بسارتر؟ ريمون آرون (1905-1983) محام فرنسي ويهودي علماني وليبرالي. مولود في نفس العام الذي ولد فيه سارتر, وتزاملا في المرحلة الجامعية, وتزاملا كذلك في مقاومة المحتل النازي, وأيدا سويا استقلال الجزائر, وكانا ضد المؤسسة الحاكمة. ولكنهما افترقا ايديولوجيا: سارتر يساري وآرون يميني. وكان آرون يري أن أسطورة اليسار تكمن في فكرة التقدم, ومغزي هذه الفكرة كامنة في أنه بمجرد أن نهجر التراث وما يلزم عنه من تعصب, وبمجرد ما يصاب العقل بالتنوير فان المجتمعات تعود إلي مسارها الطبيعي. ولكن مايحدث مع الثورات هو علي نقيض ما يراه اليسار. ففي رأي آرون أن الذين يفكرون في الثورة ليسوا هم الذين يقومون بإشعالها, والذين يفجرونها فان مصيرهم في الأغلب إما السجن وإما المنفي. والسلطة الثورية بحكم التعريف هي سلطة ارهابية. والثورة تنتهي أما الارهاب فيستمر. واذا كانت الثورة علي النقيض من الديمقراطية فالثورة تكون في هذه الحالة مدانة. وآرون قبل هذا وذاك مشهور بكتابه المعنون أفيون المثقفين. وكان ماركس يقول عن الدين إنه أفيون الشعوب, أما آرون فيقول عن الماركسية إنها أفيون المثقفين. ولم يكن آرون هو الوحيد المنشق عن هيئة تحرير مجلة الأزمنة الحديثة إذ انضاف إليه موريس ميرلوبونتي (1908-1961) وكان سبب الانشقاق مردود, في المقام الأول, إلي تصور بونتي أن الاتحاد السوفيتي هو الذي فجر الحرب الكورية. وحيث إن سارتر لم يوافق علي هذا التصور فقد ارتأي بونتي أن التماثل قائم بين سارتر وستالين. أما سارتر فقد كان يري أنه من الأفضل أن تكون كارها لأمريكا من أن تكون ناقدا لما يحدث في الاتحاد السوفيتي من كبت لحرية النقد. ومن هنا كان انحياز سارتر إلي رؤساء الدول المعادين لأمريكا من أمثال تيتو وكاسترو وماو. واللافت للانتباه بعد ذلك أن مقر الحرب الثقافية لم يكن محصورا فقط في مجلة العصور الحديثة بل أيضا في مقهي بباريس اسمه دي فلور يقع علي ناصية شارعي سان جرمان وسان بنوا. والسؤال اذن: ماذا كان يحدث في ذلك المقهي؟ المزيد من مقالات مراد وهبة