كثيرا ما يأتي القادة والسياسيون برؤي وأفكار وطموحات, وكثيرون أيضا الذين يتوقفون برؤاهم عند حد الخطب والتصريحات دون أن يملكوا القدرة علي إدخالها حيز التنفيذ. وتحويلها إلي واقع يلمسه الآخرون. وقد كان لروسيا, كغيرها من الدول, نصيب من هؤلاء. فإنتهي مشروع جورباتشوف الاصلاحي بتفكك الاتحاد السوفيتي واختفائه من خريطة التوازنات الدولية, وانتهت وعود بوريس يلتسين, الرئيس الأول لروسيا في حقبة ما بعد الانهيار السوفيتي, إلي تقويض القدرات الروسية سياسيا واقتصاديا وعسكريا, وتراجع مكانة روسيا دوليا وأقليميا. ورغم أن فلاديمير بوتين, لم يتحدث كثيرا عن رؤيته المستقبلية عند توليه السلطة مطلع عام2000, فكان مقتضبا في حديثه, مقلا في تصريحاته, إلا إن إنجازاته كانت تعبيرا حيا عن رؤيته هذه, من روسيا والعالم. فقد استطاع بوتين إعادة تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية, والخروج بروسيا من حالة الفوضي التي اجتاحتها تحت دعاوي الديمقراطية والاقتصاد الحر. فكما كان الاقتصاد هو موطن الداء الذي أجهز علي الاتحاد السوفيتي وأدي إلي تفككه, كان الانتعاش الاقتصادي هو بداية الصحوة الروسية. وبعد أن كادت روسيا تعلن إفلاسها كدولة خلال الأزمة الاقتصادية التي واجهتها في أغسطس1998, شهدت روسيا درجات متزايدة من الانتعاش الاقتصادي, وصلت حد الطفرة, التي شعر بها وبوضوح المواطن الروسي. وذلك في ظل نسبة نمو بلغت7%, وتحسن الخدمات المقدمة للمواطنين علي نحو ملحوظ, وانخفاض نسبة من يعيشون تحت خط الفقر إلي أكثر من النصف, وانخفاض نسبة التضخم والبطالة, وزيادة دخول المواطنين الروس الفعلية بنسب يعتد بها. صحيح إن الأزمة الاقتصادية العالمية ألقت بظلالها علي روسيا شأنها شأن باقي دول العالم, إلا إنها كانت من أقل الدول تأثرا بتداعياتها. واستطاع بوتين تحقيق درجة يعتد بها من الاستقرار السياسي لم تشهدها روسيا منذ سبعينيات القرن الماضي, واستعاد هيبة الحكومة المركزية وقبضتها وسلب حكام الأقاليم ما اغتصبوه من سلطات خلال حكم الرئيس الأسبق بوريس يلتسين, مما دعم الاستقرار السياسي في البلاد وأدي إلي تراجع النزعات الانفصالية حتي داخل الشيشان ذاتها والتي ظلت بؤرة أساسية لعدم الاستقرار خلال التسعينيات. من ناحية أخري, قام بوتين بتوظيف هذه النهضة وما تتمتع به روسيا من استقرار سياسي وانتعاش اقتصادي واضح لإحداث تفعيل ملحوظ في سياسة روسيا الخارجية وذلك بعد فترة ليست بالقصيرة من التخبط والسكون. فقد نجح بوتين في استعادة مكانة روسيا في مصاف القوي الكبري كما أعلن عند توليه السلطة. وعادت روسيا لتلعب دورا وتتخذ مواقف واضحة في العديد من القضايا الدولية والإقليمية. ولقد كانت المواجهة السياسية مع الولاياتالمتحدة خلال أزمة أوسيتيا الجنوبية عام2008 دلالة واضحة لتحول حقيقي في النظام الدولي نحو تعددية أكثر توازنا وعدالة. ولقد تكررت المواقف والأزمات الدولية التي تؤكد هذا التوجه, ومنها الموقف الروسي من الأزمة السورية الحالية حيث تقف روسيا بقوة في مواجهة المحاولات الأمريكية والأوربية للنيل من سوريا. إن ما تشهده سوريا لهو مآساة إنسانية حقيقية, وروسيا تؤيد حق الشعب السوري في التغيير السياسي, وهي في واقع الأمر لا تدعم نظام الأسد وإنما تحافظ علي كيان الدولة السورية حتي لا تتكرر مأساة ليبيا ومن قبلها العراق والسودان. إن الحل السلمي الذي تطالب به روسيا هو الأفضل, وربما تكون انتخابات رئاسية مبكرة لا يترشح فيها بشار الأسد هي السبيل إلي انتقال سلس وسلمي للسلطة يحمي الشعب والدولة السورية معا. ونظرا لأن موارد الطاقة من نفط وغاز طبيعي ليست مجرد سلع تجارية ولكن موارد إستراتيجية جيوسياسية, فإن الطاقة تعتبر أداة واعدة للسياسة الخارجية الروسية يمكن توظيفها سياسيا إذا أرادت القيادة الروسية ذلك إلا أنه حتي الآن لا توجد إي مؤشرات لرغبة موسكو في ذلك. ويظل نمو النفوذ الروسي في سوق الطاقة العالمية وصعودها لتصبح عملاقا في هذا المجال أمرا يضيف دون شك إلي القدرات الشاملة والمكانة الدولية لروسيا, ويعزز مكانتها كإحدي الدول الفاعلة والمؤثرة دوليا وإقليميا. لم يكن لدي بوتين عصي سحرية ولا قدرات خارقة, وإنما إرادة وعزم صادق علي النهوض بوطنه, ووعي بحقيقة قدره وعظمته, والمكانة التي يتعين أن يتبوأها دوليا, وإعتزازا واحتراما لشعبه ذي الحضارة والاسهام الأدبي والثقافي البارز في التاريخ الانساني. ولهذا استحق فترة رئاسية ثالثة حتي2018, من المتوقع أن تشهد خلالها روسيا مزيدا من الصعود لتصبح قوة قادرة علي صياغة الأجندة الدولية. إن الأمة العظيمة تحتاج إلي قيادة قوية, بهذا الشعار خاض بوتين حملته الانتخابية, وفاز برئاسة روسيا.... وهكذا تنهض الأمم, وتكون القيادة. المزيد من مقالات د.نورهان الشيخ