عُرف الفنان عصام معروف بأعماله التصويرية التى تقدم تقطيرا مصفى للوجه الانساني، ليس البورتريه الذى يحاكى ملامح وشخصية محددة، لكنه الوجه الانسانى الذى يحمل خيال ورؤية الفنان مكثفة، فتتحول خصلات الشعر إلى فروع شجر، وتكشف لون البشرة الخضراء الناصعة أو الصفراء المضيئة المحلقة عن الحلم تارة وعن المعاناة الانسانية تارة أخري. عصام معروف الذى ولد فى القاهرة وتخرج فى قسم التصوير الجدارى من الفنون الجميلة فى 1981، ودرس باكاديمية الفنون بروما، يعيش متنقلا بين القاهرة وامستردام، وكان قد انجز كل أعماله فى معرضه الذى أقيم مؤخرا فى قاعة مصر بالزمالك، أثناء تواجده فى بلده، ليقدم مجموعة فريدة من الوجوه فى حالاتها المتباينة. حول أسلوبه ومفهومه للفن المعاصر كان هذا الحوار. كيف ترى الوجه الانسانى الذى يهيمن على أعمالك وإلى أى مدى يختلف عن البورتريه؟ كانت البداية فى دراستى الأكاديمية حين تعلمنا أصول رسم الوجه الانسانى فضلا عن المنظر الطبيعي، بعد تخرجى عملت لفترة طويلة بشكل تجريدي، كنت أريد أن أنفصل وأبتعد قليلا عن الدراسة الأكاديمية المحضة فى مصر وأن أتعامل أكثر مع اللون والسطح والتقنية ، ثم جاءت مرحلة تالية عدت فيها إلى الشكل التعبيرى والوجه. ما يشغلنى هو التصوير فى حد ذاته، أنا أرسم الوجه لكن بطريقة تجريدية. هل اختيار الوجه هو تكثيف لموضوعات ومعان أخرى تتجاوز مجرد وجه الانسان؟ اذا نظرنا لى لوحة رجل وامرأة هناك قصص وتعبير عميق وراء المشهدية فى اللوحة، أردت أن أعرف ما يمثله لك الوجه بشكل خاص؟ فى مرحلتى الحالية الوجه البشرى هو المادة التى تجعلنى أخرج الحد الأقصى تصويريا، الموضوع لا يحدث بشكل اختياري، فالوجه البشرى معين لا ينبض، مصدر لانهائى للرسم واخراج زوايا جديدة وتعبيرات وألوان مختلفة. اذا نظرتى لهذا الوجه الذى يغلفه الأخضر الزاهي، فستجدين أن الوجه البشرى ليس بهذا اللون فى الواقع، لكنها المعالجة بالألوان والتقنية والتصوير بشكل عام، وليس التجسيد. لون البشرة معروف ثلاثة أو أربع ألوان بدرجات معينة، لكن الأزرق والأصفر والأخضر، لا أريد أن أقلد أو أنقل الواقع كما هو، لكنى أستعين بكل ما حولى من عناصر أتشربه وأخرج ما لدى فى التصوير. بالنسبة لى أنا لا أرسم الوجه فى حد ذاته، لكن ما يخرج على سطح اللوحة هو ما يفعله الوجه بي، كيف اثر فى بشكل ما بالاضافة إلى كل العناصر الأخرى المؤثرة فى تكوينى فيخرج فى النهاية الوجه. هذا المعنى هو تعريف للتجريد بشكل ما، أى أنك تتناول الوجه بشكل تجريدي، ما وراء الشكل نفسه أو الفورم ما يثيره فيك من أحاسيس تلقى صداها لدى متلقى ما يشعر بعواطف وأحاسيس معينة عند مشاهدته للوجه... تماما. الفن التشكيلى ليس وظيفته نقل الواقع أو التوثيق ولكن أن يطلعنى كيف تحول الموضوع من مجرد وجه أو شجرة أو زهرة إلى ما يحدثه فى الفنان من مشاعر وأحاسيس وما يفعله بالتالى فى المتلقي. استخدمت الناقدة فاطمة على فى تحليلها لأعمالك تعبير «السرد الذاتي» إلى أى مدى تتفق مع هذا التوصيف، هل التصوير لديك به نوع من البوح الذاتى؟ التصوير بالنسبة لى هو وسيلة حياة. وهذا ما كتبته كشعار على موقعى الالكترونى إن «التصوير هو طريقة رائعة للحياة»، التصوير هو تعبير عن حياتى، فهو بالنسبة لى مثل الأكل والشرب، يرشدنى فى حياتي. اعتقد ان الفنان، مصورا كان أو شاعرا، لا يتخذ من الفن عملا له، بل جزء من ذاته نفسها، فهو لا يتم صنعه لكنه يحدث، بمعنى أن هذه اللوحة التى تشيرين إليها لا يمكن أن أكررها من جديد، صحيح أن لدى مخزونا من الخبرات البصرية والنفسية أثناء عملى فى لوحة ما، لكنها لحظة لا يمكن تكرارها فهى وليدة مشاعر وانفعالات لحظة معينة، كذلك الحال بالنسبة للفوتوغرافيا حين يلتقط المصور لحظة زمنية لا يمكن تكراراها، كما لو كنت حبست بصريا لحظة ما، لحظة تمر و أنا فى النهاية أريد أن أقول جملة واحدة وحيدة. فلو تأملنا مجمل أعمال أى فنان بعد رحيله، سنجد أنه يقول جملة واحدة مع اختلاف المدارس، موندريانى رسم التشخيص ثم طواحى الهواء ودخل فى التجريد لكنه فى النهاية جمة واحدة. هذا المعرض هو حرف من حروف الجملة التى أريد أن أقولها. وما هى طبيعة الجملة التى تريد أن تقولها من خلال أعمالك هل ترتبط بالوجوه والطبيعة البشرية برؤية فلسفية ما؟ جملتى لا علاقة لها بالموضوع، لكنها بشكل أدق ترتبط بالشعور الذى يحمله اللون، فحين أرسم الوجه لا يهمنى اذا كان بشكل تعبيرى أوتجريدي، هل من رسم الشجرة افضل ممن رسم تجريدي، بالطبع لا. اللون والسطح والتكوين والمرجعية أو علاقة كل هذا بتاريخ الفن، لست منفصلا عن كل ما تم ابداعه قبلى منذ جيوتو فى الفن الحديث أو الرسوم الهندية، أو النقوش على جدران معابد الأقصر، الموضوع لانهائى وغير منفصل عن المخزون الفنى العالمي. لكنى فى تجرتى الخاصة أعبر عن مخزونى أنا البصرى الثقافى والعاطفي. بالنسبة لى ليست القضية فى كون فنان رسم شجرة بشكل تعبيرى وآخر رسمها بشكل تجريدي، الحكم بالنسبة لى واحد لكن الفيصل هو القياس بالنسبة لى فى العمل الفنى ليس الموضوع أو الحكي، فهذا مجال الأدب، لكنى أشبهه بقطعة الأوبرا التى لا تعتمد فى نجاحها ليس على القصة بشكل أساسي، بل على مجموعة عناصر على رأسها الموسيقى والأداء والتنسيق الهارمونى الذى يجعل من تعدد الأصوات حالة فنية فريدة وليس ضجيجا عشوائيا وصخبا. وهذا يشبه كثيرا احساسى بالعمل الفني. ألا ترى أن تلقى العمل الفنى فى هذه الحالة يتطلب ثقافة عليا قد تبعد الفن عن الجمهور العريض؟ لا أظن أن المسألة تحتاج إلى ثقافة رفيعة للاحساس بصدق العمل الفني، بل يكفى أن يكون هناك رؤية أولية لدى القائمين على التعليم بحيث يتم دعوة اطفال ابتدائى لزيارة المتحف المصري، وزيارة الأهرامات، ودعوتهم للتعبير عما يشعرون به بالأقلام والألوان، وزيارة كلية الفنون الجميلة. ستكتشفين أنها مسألة لا علاقة لها بالثقافة ولكن بالاحساس. فالأطفال يرسمون أحيانا أفضل من الكثير من كبار الفنانين، حتى أن هناك جملة شائعة يقولها الرسام ليتنى كنت طفلا أو مجنونا حتى أطلق العنان لخيالى بلا قيود. أحتاج أن أفاجأ أثناء عملي، لكنى لست مخترعا أو أنتمى لطبقة المثقفين، لكنى مسكون بالجمال الذى يحيطنى من كل جانب، أعيش فى هلندا صحيح لكنى أنهل من مخزون الذكريات، من مشاهد التحطيب فى الصعيد، والرسومات والزينة على البيوت الريفية والشعبية، من الطبيعة ومن قسمات وجوه البشر فى كل مكان، وأنقل على سطح اللوحة تفاعلى مع كل هذا.