توافد عشرات الزائرين الاسبوع الماضى على قاعة كريم فرنسيس للفن التشكيلى بوسط العاصمة فى افتتاح معرض ثنائى يضم مجموعة من أعمال حامد عبد الله التصويرية ومجموعة من أعمال عبد البديع عبد الحى النحتية. جاء الحضور كثيفا للقاعة التى ظلت مغلقة طوال أربع سنوات ليشهدوا أعمال فنانين رائدين لفهما النسيان، وبدأ الجمهور فى إعادة اكتشافهما، حامد عبد الله (1917-1985) الذى عرضت أخيرا أعماله فى مطلع 2014 بقاعة العرض بمتحف الفن الحديث بعد أن قبعت فى مخازن المتحف لسنوات طوال، وأطلقت أسرته كتابا يضم أعماله ومراحله الفنية ومسيرته الفنية فى مصر وفى سنوات المنفى فى فرنسا بعنوان «الرسام عبد الله». وعبد البديع عبد الحى (1916-2004) الذى لا يعرفه الكثيرون ولا أهل الاختصاص من طلاب الفنون الجميلة، لكونه فنانا عصاميا لم يتلق التعليم الأكاديمى لكنه تفوق على أقرانه من الفنانين بحصوله على جائزة مختار فى الأربعينيات من القرن الماضي، أو فى حصوله على منحة مراسم الأقصر فى الخمسينيات وغيرها. ويعرض اليوم فى معرضه ثلاثة أعمال من الجبس واحد عشر من البرونز بعد أن عكف ابنه النحات شريف عبد البديع على صبها من البرونز ليحقق الحلم الذى طالما راود والده ولم تكن امكانياته تسمح بالتعامل مع الخامة الثمينة، كما تمثل هذه المجموعة المعروضة خطوة على طريق الاعداد لإقامة معرض استعادي ضخم احتفالا بمئوية عبد البديع فى العام المقبل 2016.«وددت أن أقدم، بعد أربع سنوات من التوقف، من خلال نحت عبد البديع، نموذجا للأجيال الجديدة لأعمال نحتية متميزة تراعى الأصول الكلاسيكية وتحمل رؤية الفنان المميزة، جنبا إلى جنب مع لوحات حامد عبد الله الحداثية حيث عاهدت أسرته منذ سنوات على إعادة تعريفه بجمهوره»، يفسر كريم فرنسيس بهذه الكلمات اختياره عرض أعمال الفنانين الرائدين على وجه التحديد، وخاصة وهو يحتفل اليوم بمرور عشرين عاما على افتتاح قاعة كريم فرنسيس بوسط البلد والتى كانت نافذة لتقديم الفن المعاصر والدفاع عن قيم الحداثة، وساهمت القاعة فى تقديم جيل التسعينات فى الفن التشكيلى ودفعت بالعديد من الأسماء إلى السوق العالمي. يقدم المعرض مجموعة من لوحات حامد عبدالله فى مرحلة السبعينات بعد عودته من فرنسا تتسم بالطابع التشخيصي، والذى تظهر فيه تفاصيل العمل بوضوح وليس الخطوط التجريدية التى عرف بها، بحيث تتماشى مع منحوتات عبد البديع عبد الحي، وتسمح بنوع من الحوار الداخلى الغير متنافر بين الأعمال.
أما العوالم الفنية، فينتمى كل من عبد الله وعبد الحى إلى عالم فنى مختلف تمام الاختلاف. تعارف الفنانين فى سنوات الشباب عن طريق السيدة هدى شعراوي، فى بدايات الأربعينات، كما يروى الابن سمير عبد الله المخرج السينمائى المقيم بفرنسا. حيث كانت هدى شعراوى معروفة برعاية الفنون وتشجيع الفنانون، وكان عبدالله يقصد قاعة العرض التى تمتلكها ويعرض أعماله وقد بدأ فى تثبيت أقدامه بينما كان عبد الحى فى بداية رحلته العصامية، حيث عمل طباخا لدى هدى شعراوى وتفتحت موهبته بتشجيع من السيدة التى ساعدته فى الالتحاق بالقسم الحر بالفنون الجميلة فى 1943، وكان عبد الله من المشجعين والمقدرين لموهبة عبد الحى ولاصراره ودأبه.
فإذا كان هناك ما يجمع بين الفنانين، فينبغى البحث عنه فى رحلة المسارات الفنية العكسية، فبينما بدأ عبد الحى فنا فطريا، أثناء عمله كطباخ لدى أسرة من الأعيان فى مدينة ملوى الصعيدية، وكان يقوم بالنحت العفوى على قرون الجاموس بسكين المطبخ، حتى تعلم أصول النحت الأكاديمى ونافس غيره من النحاتين حتى كرمته الدولة وحصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي، وإن ظل محافظا على الروح التلقائية فى التقاطه للموضوعات، مثل قطعة المراكبى التى انجزها فى رحلة العودة من مرسم الأقصر، حين أخذ قطعة من طمى النيل وصنع بورتريه المراكبى بملامحه الصعيدية المميزة. كانت رحلة عبد الله العكسية تتمثل فى ميله إلى الخطوط البدائية رغم دراسته الأكاديمية بالفنون الجميلة، كما لو كان يود أن يمحى أى أثر للتخطيط المسبق للعمل وأى محاولة للتثاقف على سطح اللوحة. وكان الكاتب والناقد الكبير ادوار الخراط قد رصد هذا الميل إلى البدائية فى أعمال عبدالله وكتب عنه فى جريدة الحياة : «كان الفنان يكتفى بخطوط خارجية تقترب من البدائية –أو الطفيلية- لكنها تعبر عن فكره واحساسه بقوة وببساطة، حتى انها تذكر احيانا بالسخرية أو الانبساط أو المداعبة .. وفى هذا التشويه الجميل –إن صح هذا التعبير وهو صحيح- تكمن معابثة الفنان للظاهرة المرئية الواقعية، واللعب معها، بروح من الانطلاق، وسعيا وراء ازاحة الأقنعة الجامدة البرجوازية التى كان حامد عبد الله يمقتها».
فى معرضهما الجديد، يكتشف الجمهور ملامحا جديدة لكل من الفنانين، مثل هذه القطعة النحتية الصغيرة التى صنعها عبد الحى من الجبس لوجه فتاة شابة تشبه المنحوتات اليونانية التى كانت تزين بيوت الطبقة الارستقراطية، تعود هذه القطعة الى بدايات عبد الحي، حيث يروى ابنه شريف أنه عثر عليها فى عمق مصطبة كان يحتفظ فيها ببعض قصاصات الجرائد والنثريات البسيطة، وقد حفر عليها اسمه كاملا «عبد البديع عبد الحى أسفل واجهة القطعة، واكمل فى احد جوانبها باقى بياناته الشخصية : «طباخ». كان ذلك قبل أن يصقل موهبته الفطرية ويتعلم كيف يمهر العمل بتوقيع الفنان الذى يميزه، كما تعكس هذه القطعة أيضا اعتزازه بمهنته كطباخ. أما مجموعة أعمال عبد الله، فتظهر لنا نحن جمهوره أن فى جعبته ما زال هناك الكثير الذى لم يتم اكتشافه بعد ضمن أعمال شديدة التنوع والثراء. فمثلما تعرفنا على جانب من أعماله فى الخمسينات والستينات، ضمن مقتنيات متحف الفن الحديث، ومثلما لاح لنا جزء من أعماله فى مرحلة «الكلمة-الفورم» أو الحروفية التى تعتمد على دمج الحرف العربى فى شكل موضوعى من دم ولحم، وذلك فى معرض بمقر السفارة الفرنسية فى 2014، واطلاعنا على جوانب عديدة من أعماله فى كتاب الرسام عبدالله، إلا أن المجموعة المعروضة تطلعنا على تقنيات مختلفة ميزت الفنان مثل أعمال الجواش على ورق مكرمش تبهر المتلقى حين يراها على الطبيعة فى معرض متكامل، فضلا عن كيفية استخدام عبدالله للاضاءة الداخلية للوحة، بحيث تتحول إلى مكون أساسى وليس مجرد عنصر مساعد فى أعماله. «ما يهمنا فى الأسرة، أمى وشقيقيّ وأنا، كما يقول سمير عبد الله، أن تتعرف الأجيال الجديدة على عمق عالم عبد الفنى كفنان مصري، عاش سنوات الغربة ودفع عزلته الفنية ثمنا لمواقفه السياسية، فى الخارج، فى منفاه الاختيارى فى فرنسا حين قاطع تجار الفن بعد العدوان الثلاثى على مصر، وفى الداخل، فى مصر حين عارض مبادرة كامب ديفيد للسلام مع العدو الاسرائيلى ودفع الثمن باهظا من النكران والنسيان».
لها أن تنتشى أسرة عبد الله اليوم، حيث يعمل متحف تيت بلندن حاليا على شراء ثلاثة أعمال لعبدالله، كما بيعت إحدى أعماله من مجموعة «شم النسيم» فى قاعة مزادات كريستيز العام الماضي، وتستعد اليوم، استنادا إلى خبرة كريم فرنسيس، لإقامة معرض استعادي فى اكتوبر 2015 بقاعة أفق بمتحف محمود خليل وحرمه.