رغم ما يدنو من القرنين على ابتداء الانشغال بتجديد الدين وخطابه فى العالم العربي، فإن هذا التجديد وككل شيء فى هذا العالم التعيس قد أخلف وعده وآلت مصائره إلى الإخفاق مكتملاً وشاملاً؛ وعلى النحو الذى ظهر جلياً مع الصعود الكاسح فى عقب ثورات العرب لجماعات الإسلام السياسى التى هى على نحوٍ ما الوريث التاريخى لمحاولات التجديد الممتدة منذ القرن الثامن عشر. فقد بدا أن هذه الجماعات قد ارتدت ناكصةً إلى ما يمكن القول إنه إسلام ما قبل العقل؛ الذى هو إسلام الانفعالات والتعصبات والغرائز الأولية الذى جعل من دول الثورات ساحة للإقصاء والدماء.وإذ يبدو أن بعضاً من علل الإخفاق وسوء المآل، إنما يرتبط بالتباس المفاهيم وعدم انضباط دلالتها، والمضمون الفقير للعلاقة فيما بينها، فإن ذلك يؤول إلى ضرورة البدء من ضبط المفاهيم وتحريرها من عبء التشوّه والالتباس؛ وهو التشوّه الذى يطال لسوء الحظ دلالة الثلاثى المفاهيمى (التجديد- الخطاب- الدين) الذى يتركَّب منه هذا العنوان الرئيسي: «تجديد الخطاب الديني». وإذن فالأمر يتعلق بوجوب إعادة النظر؛ ليس فقط فى الدوال اللفظية الثلاثة التى يتألف منها هذا العنوان، بل فى طبيعة العلاقة التى تقوم- بحسب ما يكشف التحليل بينها؛ والتى هى علاقة المجاورة. ولسوء الحظ، فإن «المجاورة» هى أبسط أشكال العلاقة وأكثرها فقراً، إذا جاز أصلاً أنها علاقة. إذ الحق أن تلك «المجاورة»؛ وأعنى من حيث هى آلية الخطاب العربى الرئيسة فى مقاربة مفاهيمه وترتيب العلاقة بينها، هى أحد أهم الجذور المُغذية لأزمته الضاغطة التى لا يزال يتخبط فيها. حيث المجاورة لا تحيل إلى ما هو أكثر من أن مفهوماً يقف إلى جوار آخر؛ وبما يعنيه ذلك من أن العلاقة بينهما هى علاقة خارجية محضة. وغنيٌّ عن البيان أن كون العلاقة بين مفهومين، أو أكثر، هى ذات طابع «خارجي» إنما يعنى أن الواحد منهما يظل وحدة مصمتة ومغلقة على ذاتها؛ وبحيث لا يكون ممكناً أن ينفتح الواحد منها على الآخر مؤثراً فيه ومتأثراً به فى سياقٍ تفاعلي، يسمح للمفهوم أن يتخارج من ذاته ليتواصل مع الآخر، بدل أن يتناحر معه بحسب ما هو حاصلٌ حتى الآن. وضمن سياق هذه العلاقة التجاورية التى تعد الأكثر صورية وفقراً لأن المفهوم، فى إطارها، لا يملك إلا أن يقوم إلى جوار غيره، منكفئاً على ذاته، ومسجوناً داخل أسوار عزلته فإنه لابد من توقُّع أن يكون التجديد مجرد عملٍ خارجى لا يطال أبداً ما يتعدى حدود سطح الخطاب؛ وبمعنى أنه لا يتجاوز كونه مجرد طلاءٍ يستهدف «التجميل» وليس فعلاً معرفياً يصنع «التغيير». ويرتبط ذلك بأن فعلاً يستهدف «التغيير» حقّاً، لابد له من تجاوز السطح إلى ما يقوم تحته من الأصول العميقة المؤسِسة. وابتداء من ذلك، فلعله يجوز القول بأن المأزق الأعتى لما جرى الاصطلاح على أنه خطاب التجديد إنما يتأتى من أنه لم يتجاوز حدود القول المعلن على السطح (أو المضمون المباشر) إلى ما يرقد تحته من الرؤى والتصورات الحاكمة. إذ يبدو أن عدم الوعى بهذه الرؤى والتصورات الحاكمة هو ما سيجعل المجددين المسلمين لا يفعلون تقريباً إلا محاولة إجبار ما ينتمى إلى مجالٍ بعينه على الوقوف إلى جوار ما ينتمى إلى مجالٍ مغاير أو حتى مناقضٍ له بالكلية. وليس من شكٍ فى أن ذلك، بالذات، هو ما سيجعل الطهطاوى يضع «تدبير السياسة الفرنساوية» القائم على «إن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف، وإن السياسة الفرنساوية هى قانونٌ مقيَّد»، إلى جوار «تدبير الدولة المصرية» القائم على «إن للملوك فى ممالكهم حقوقاً تسمى بالمزايا، فمن مزايا الملك أنه خليفة الله فى أرضه، وأن حسابه على ربه، فليس عليه فى فعله مسئولية لأحدٍ من رعاياه». ولقد كان ذلك بمثابة التجسيد الفعلى فى مسألة بعينها لحقيقة أن الطهطاوى لم يفعل على العموم إلا أنه طلب من التراث الأشعرى أن يرقد فى سلام، كمكوِّن جواني، تحت زخارف الممارسة الحديثة، كمكوِّن براني، ليتشاركا معاً فى بناء خطابه الذى لا يزال يشتغل فى عالم العرب للآن. وهكذا فإن مبدأ «التحسين والتقبيح العقليين»، ذى الأصل المعتزلي، الذى استخدمه الطهطاوى كجسرٍ ينقل بواسطته ممارسة المُحدثين إلى عالمه، قد كان عليه أن يتجاور مع مبدأ «نفى السببية» الأشعري؛ القاضى بأن «التأثير فى الحقيقة للمولى سبحانه وتعالى وأن إطلاق لفظ المؤثر على السبب إنما هو باعتبار الظاهر». وكان ذلك يعنى أن ما يستحيل قيامه إذا غابت السببية (وهو مبدأ التحسين والتقبيح العقليين) عليه أن يشتغل إلى جوار مبدأ «نفى السببية» المناقض له؛ وعلى النحو الذى بدا معه أنه خطاب النقائض المتجاورة. ولعل هذه النقائض المتجاورة هى ما ستقوم وراء ما فعله الأستاذ الإمام محمد عبده من وضع عقيدة الأشعرية (فى الصفات) إلى جوار اعتقاد المعتزلة (فى العدل)، فى محاولته الرائدة لتجديد علم العقائد التى باشرها فى «رسالة التوحيد». وذلك فضلاً عن أنه قد كان بعينه هو ما تقصد إليه الدعوة إلى «فتح باب الاجتهاد» التى لم تكن تعنى إلا محاولة ترميم البنية القديمة، مع استمرار التفكير من داخلها قائماً هو نفسه. وهنا يلزم التنويه بأن استمرار التفكير ضمن ذات البنية القديمة قد كان من أهم العوائق التى حالت دون انتاج «تجديدٍ» فعَّال يخرج بواقع العرب من أزمته. إذ تظل البنية الكلية قادرة؛ ليس فقط على تحييد كل اجتهادٍ جزئي، بل تحويله إلى أحد العناصر التى تطيل بها أمد بقائها؛ وذلك بسبب ما تخايل به من قدرتها على التجاوب الدائم مع كل جديدٍ ومُستحدث. وهكذا تنكشف الطريقة التى انفتح بها «باب الاجتهاد»- فى العصر الحديث- عن مفارقة «التجديد» الذى يؤول إلى إطالة أمد بقاء «القديم»، بل حتى إدامة وجوده. لمزيد من مقالات د.على مبروك