تواصل الصين يوما بعد يوم سعيها الحثيث لمنافسة الولاياتالمتحدة باستخدام أقوى أسلحتها، وهو الغزو الاقتصادى للمناطق التى تخضع للهيمنة الأمريكية. فبعد فرض نفوذها الاقتصادى فى آسيا وأفريقيا، تسجل بكين هذه الأيام أحدث محاولاتها للتوغل فى العمق الأمريكي، بمد يدها لأمريكا اللاتينية، التى تعد "الفناء الخلفي" للولايات المتحدة. فها هى بكين تستضيف للمرة الأولى منتدى الصين ومجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبى المعروف اختصارا باسم "سيلاك"، والذى أعلن عن تأسيسه الرئيس الصينى تشى شين بينج خلال زيارته لدول أمريكا اللاتينية فى يوليو من العام الماضى لتعميق العلاقات بين الجانبين. وافتتح الرئيس الصينى المنتدى بإعلانه عزم بكين استثمار 250 مليار دولار فى أمريكا اللاتينية خلال السنوات العشر المقبلة، مؤكدا تصميم بلاده على توسيع التبادل التجارى مع دول المنطقة ليبلغ 500 مليار دولار فى العقد المقبل. وذكر تشى أن الصينوأمريكا اللاتينية تتعاونان فى مجالات الطاقة والزراعة والبناء والتكنولوجيا. وكانت الصين قد ضاعفت من حجم تجارتها مع دول أمريكا اللاتينية من 12 مليار دولار عام 2000 إلى 275 مليار دولار عام 2013، وتشترى الصين - صاحبة ثانى أكبر اقتصاد فى العالم - البترول من فنزويلا والإكوادور، والنحاس من بيرو وشيلي، وفول الصويا من الأرجنتين والبرازيل. وفى المقابل، تعتبر دول أمريكا اللاتينية سوقا كبيرة للمنتجات الصينية، فضلا عن أن الحكومة الصينية تضخ مليارات الدولارات للاستثمار فى تلك المنطقة. وقد أعلن الرئيس الفنزويلى نيكولاس مادورو منذ بضعة أيام أنه حصل على استثمارات صينية بأكثر من 20 مليار دولار، فى حين أكدت الإكوادور أنها حصلت على تسهيلات ائتمانية وقروض من الصين بقيمة 7٫53 مليار دولار. والقروض هى من أهم الوسائل التى تستخدمها الصين فى علاقاتها الاقتصادية مع أمريكا اللاتينية، ففى الفترة ما بين عامى 2008 و2012 منحت الصين قروضا للمنطقة بقيمة 80 مليار دولار، كما تعمل الصين على تقوية علاقتها بالمكسيك حليفة الولاياتالمتحدة، حيث أنشأت بكين هناك 30 مصنعا تتمتع بإعفاءات ضريبية كبيرة. والحقيقة أن الصين اختارت بالفعل الوقت المناسب لتعزيز علاقاتها بالدول اللاتينية، فدولتان مثل فنزويلا والإكوادور - وهما مصدرتان للبترول - يعانيان بشدة بسبب انخفاض أسعار البترول العالمية والاستثمارات الصينية ستعوض بلا شك العجز فى ميزانية الدولتين اللتين تعتمدن على إيرادات البترول كمصدر رئيسى للدخل.ويقول بعض المحللين إن الصين متعطشة للموارد والأسواق اللاتينية، ولديها نية لمنافسة الولاياتالمتحدة لكسب مزيد من النفوذ فى تلك المنطقة، ولكنهم أشاروا فى الوقت نفسه إلى أنه من السابق لأوانه تحديد ما إذا كانت تلك الاستراتيجية الصينية ستنجح بالفعل فى إضعاف النفوذ الأمريكى فى منطقة ظلت خاضعة للهيمنة الأمريكية لسنوات طويلة. وفى المقابل، يستبعد محللون غربيون أن يؤثر التوجه اللاتينى للصين على قوة الولاياتالمتحدة فى المنطقة، قائلين إن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية بين أى دولة فى المنطقة وبين الولاياتالمتحدة أعمق كثيرا من أى علاقة تربط هذه الدول بالصين. ويرجح البعض أن خطوة الولاياتالمتحدة لعودة العلاقات مع كوبا بعد انقطاع دام أكثر من نصف قرن، قد تكون وراءها قلق أمريكى من صعود النفوذ الصينى فى المنطقة، وربما تتبعها خطوات أمريكية أخرى لمواجهة المد الصينى فى المنطقة اللاتينية، وبخاصة بعد فشل كل المحاولات الدعائية الأمريكية فى توجيه الطعنات والاتهامات إلى الصين، خاصة فيما يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان. وفى النهاية، فإن محاولات التنين الصينى لتوجيه نيرانه ضد أكبر منافسيه لن تتوقف، وقد سبق أن حققت نجاحات كبيرة فى ذلك عندما توغلت فى الأسواق الأفريقية، البعيدة عن متناول الأمريكيين، ولكن الوضع مختلف تماما فى أمريكا اللاتينية كما سبق التوضيح، وإن كان المارد الصينى فاز بجولات عديدة بالفعل فى تلك المنطقة البعيدة عن نفوذه. إذن، فنحن الآن أمام حرب باردة صينية أمريكية فى الفناء الخلفى الأمريكي، تسعى خلالها الصين بشتى الطرق إلى تحقيق مصالحها وإيجاد مورد ثابت للمواد الخام اللازمة لصناعاتها، أو ربما لتحقيق حلمها فى أن تصبح قوة عظمي، وهو حلم أوشك أن يتحقق بالفعل.