يحمل احتفال القضاة بعيدهم أمس الاول السبت ، دلالات موضوعية عديدة ؛ أولها : أنه يعد عيدا لمصر كلها ، وفرحة عارمة أضاءت ساحات المحاكم في ربوع مصر المحروسة جميعها ، لا سيما وقد شاركهم عيدهم وفرحتهم رئيس مصري صميم ، يثبت دومًا اعتزازه بقضاء مصر ، وقضاته الأجلاء الأوفياء ، الذين ما يفتئون ينهضون برسالتهم السامية في نشر العدل ودرء الظلم في كل أرجاء البلاد وعلى كل العباد ، وكل هذا يتكبده القاضي بنفْسٍ راضيةٍ وروحٍ مرْضية ، تسعى لتطبيق موجبات القانون عساه يصل إلى حق طالما كان يؤرِّق طالبه، أو يردّ عن مظلوم فِرية أو مظلمة خشي كثيرًا أن تلاحقه جراء وشاية كاذبة أو ادعاء لا أساس له. ثانيها : انعقاد الاحتفال بأكبر قاعات دار القضاء العالي وهي قاعة المستشار عبد العزيز باشا فهمي مؤسس وأول رئيس لمحكمة النقض - والذي كان للمغفور له المستشار الدكتور فتحي نجيب رئيس محكمة النقض الأسبق فضل تسمية تلك القاعة باسمه ولقاء الرئيس بمجلس القضاء الأعلى في قاعة اجتماعاتهم برئاسة قاضي قضاة مصر رئيس محكمة النقض، ويضم صفوة شيوخ القضاة وهم النائب العام وأقدم نائبين لرئيس محكمة النقض ورؤساء محاكم استئناف القاهرة والإسكندرية وطنطا ، ، دلالة مهمة على استقلال القضاء وعلى دور مجلس القضاء الأعلى في القوامة على شئون رجال القضاء ، والذود عن استقلال القضاء والقضاة ، واستذكر هنا مقولة المستشار عبد العزيز باشا فهمي : إن مركز القاضي لَأسمى وأكرم عندي من مركز الوزير،. كما أذكر هذا القاضي الذي اعتذر عن تلبية دعوة أحد الوزراء على عشاء له بمنزله تحسّبًا أن يتداعى أمامه في دائرته، وذاك القاضي الذي ردّ على وزير العدل شكره قائلاً: من يملك الشكر يملك الذمّ، ومن يقول المدح يقول القدح، وكلاهما لا يملكه الوزير.. فالقاضي ينأى بنفسه أن يكون موضع الاسترابة وسوء الظن.. كما يُنقل عن الأديب الفرنسي بلزاك قولُه: ليس في الوجود من قوة بشرية مَلِكًا كان أو رئيس وزراء أو وزيرًا يمكن أن تجور على سلطة القاضي.. القاضي الذي لا يحكمه شيء إلا ضميره والقانون.. وهذا هو شارل ديجول بعد أن خرجت فرنسا منتصرة في الحرب العالمية الثانية يسأل عن أحوال القضاء في ألمانيا - المهزومة والمنقسمة إلى دولتين - فلما علِم أنه بخير .. قال: إذن ستنهض. ثالثا : كانت كلمات الرئيس في عيدهم حاسمة في حرصه على عدم التدخل فى شئونه، والتأكيد على استقلاليته ، وأن قضاة مصر لهم دور كبير فى التصدى للإرهاب الذى يواجه الدولة المصرية، من جماعات تكفيرية تريد هدم مصر من أجل مصالحها وأفكارها الشخصية ، وأن قضاة مصر يبذلون قصارى جهدهم من أجل العدالة وإرساء قيم ومبادئ رفيعة المستوى، والكل سواسية أمام القانون.. تلك الأسرة القضائية مسئوليتها جسام متسلحة بتقاليد عريقة وقيم نبيلة فستظل هيئاتنا القضائية مدركة لطبيعة مهامها وعظم المسئولية الملقاة على عاتقها وسيظل القائمون عليها أهلا لها وأهلا للعدل والحكمة ، فلا شك أن تلك الكلمات رسالة طمأنة تحمل لجموع المتقاضين ، دلالة موضوعية بالتزام الحاكم الحيدة والانصياع لحكم القانون وأحكام المحاكم ، فلا سلطان يعلو على سلطان القانون ، ولا يوجد أحد فوق القانون ، فالكل أمام القانون والمحكمة سواء. رابعا : كلمة شيخ القضاة الجليل القاضي حسام عبدالرحيم، رئيس محكمة النقض و رئيس مجلس القضاء الأعلى، أمام العالم أن قضاء مصر مستقل لا سلطان عليه إلا سلطان القانون، وأن قضاة مصر على قلب رجل واحد إيمانًا بقضيتهم، وهم سدنة العدالة يضعون موازينها بالقسط بين الناس، ويبتغون وجه الله ورضاه ، وتأكيده على عدم التدخل مطلقا في شئون العدالة ، وأن القضاة أحرص الناس على الامتثال لأحكام الدستور والنزول على موجبات القانون، حملت أكبر دلالة موضوعية على أن استقلال القضاء ليس مَطلبًا فئويًّا للقضاة فحسب، بل هو الأساس الأهم والدعامة الرئيسية التي ينهض عليها المجتمع فيقوى عُوده ويشتد ساعده .. ولمَ لا .. والقضاء هو الحصن الحصين والملاذ الأخير لشكوى المظلومين وأنين المقهورين من عنت أو إعنات السلطة بهم. وما لم يتحقق للقضاة استقلال تام كامل غير منقوص، فلا تنمية ولا استثمار ولا ديمقراطية ولا أيّ من تلك المصطلحات التالية والتابعة والمكمِّلة لاستقلال القضاء. واستقلال القضاة ليس منحة من أحد.. بل هو مكوِّن هيكلي لفكرة الدولة.. التي لا قيام لها ولا استمرار لوجودها دون قضاء حرّ نزيه مستقل. خامسا : احتفال القضاة بعيدهم يعلن للجميع أن استقلال القضاء حقيقة لا يمكن النيل منها أو التشكيك في وجودها فقد تمتع القضاء في مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر بهيبة واحترام وتوقير لدي الرأي العام المصري بكل طوائفه حتي قبل أن توجد قوانين منظمة للسلطة القضائية ، فقد نشأ القضاء الحديث في مصر عقب الاحتلال البريطاني مباشرة عام1882 وقبل الاحتلال كانت المحاكم الشرعية هي محاكم القانون العام أو هي صاحبة الولاية العامة وكانت تحكم بمقتضي مجلة الأحكام العدلية الصادرة في ظل الدولة العثمانية.. وظل الحال علي هذا النحو إلي أن صدر دستور1923 ونص صراحة علي استقلال القضاء وعلي أنه لا يجوز لأي سلطة التدخل في عمل القضاة.. وفي عام1943 صدر أول قانون لاستقلال القضاء, وحرصت المذكرة الإيضاحية له علي التأكيد أن النصوص لم تنشئ حقيقة استقلال القضاء, فمن طبيعة القضاء أن يكون مستقلا, والأصل فيه أن يكون كذلك, وكل مساس بهذا الأصل من شأنه أن يعبث بجلال القضاء, وكل تدخل في عمل القضاء من أي سلطة من السلطتين, يخل بميزان العدل, ويقوض دعائم الحكم, كما أفصحت المذكرة الإيضاحية عن أن ما جاء به من ضمانات تشريعية لاستقلال القضاء هو مجرد خطوة علي طريق هذا الاستقلال سوف تتبعها خطوات. ثم كانت محاولات يائسة للنيل من استقلال القضاء إلى أن صدر القانون رقم (35) لسنة 1984 الذي أضاف فصلا جديدا إلى أحكام قانون السلطة القضائية رقم (46) لسنة 1972 بعنوان «مجلس القضاء الأعلى»، وما زال هذا المجلس الموقر ينهض برسالة القضاة في تأكيد دعم استقلالهم واتخاذ جميع القرارات المتعلقة بشئونهم. ولعلها فرصة سانحة ونحن نحتفل بعيد القضاء أن أطرح ثمة مقترحات أراها مفيدة ، قد يكون من بينها إعداد مشروع قانون جديد شامل للسلطة القضائية يستجيب لمقتضيات الإصلاح الجذري في صميم الكيانات القضائية برمتها بما قد يقتضيه من إعادة النظر في التنظيم القضائي يعالج تلك المثالب التي أسفر عنها التطبيق العملي لقوانين السلطة القضائية المتعاقبة,وما قد يستتبعه من تعديل في قوانين أخري مرتبطة كقوانين المرافعات و الإجراءات الجنائية وإجراءات الطعن بالنقض وغيرها.. وقد يكون من ملامح القانون الجديد استقلال هيئة الادعاء( النيابة العامة) ليس بوصفها شعبة من شعب السلطة القضائية فقط ولكن باعتبارها جهة قضائية مستقلة, والنظر في إعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى ليضم مديري التفتيش القضائي للقضاة والنيابة العامة, وتعديل الهيكل التنظيمي لترتيب المحاكم وولايتها وتحديد نصابها واختصاصها وطرق الطعن والمدد المحددة لقضاتها علي نحو يفوت الفرصة علي هواة الشغب القضائي في إطالة أمد نظر الدعوي, ثم إجراءات نظر الطعون المدنية والجنائية في مرحلة النقض لسد الثغرات التي ينفذ من خلالها محترفو اللدد في الخصومة, كذلك استقلال نيابة النقض الجنائي بكوادر مهنية تتحقق لها الخبرة والاستمرارية تفعيلا لدورها في نظر الطعون وإمكانية تخويلها سلطة التصرف في بعضها تخفيفا عما تنظره دوائر النقض, وإنهاء مراحل نظر بعض أنواع الجنح و القضايا المدنية عند الاستئناف علي غرار محاكم الأسرة والمحاكم الاقتصادية.. وأخيرا إعادة النظر في التدرج الوظيفي للقضاة وأعضاء النيابة العامة باستحداث درجات بينية للقائم حاليا وأخري في نهاية السلم القضائي استهداء ببعض النظم القضائية المقارنة كفرنسا مثلا. وفي الختام أوجه تهنئتي لزملائي الأجلاء قضاة مصر ، ولمجلس القضاء الأعلى الموقر ، ولوزير العدل الجليل ، والشكر موصول دوما للسيد الرئيس عبد الفتاح السيسي على دعمه ورعايته للمصريين. لمزيد من مقالات د. خالد القاضى