العين لما تفضى تبقى حجر، والعين المقصودة هى عين الماء عندما تزول منها منفعة الماء، وتصبح خرابا، لايبقى فيها إلا الحجر، وربما انتشر المثل المعروف عن العين الحجر، التى لاتخجل ولا تستحي، من تلك العين الفارغة، بعد أن ذهبت منفعتها وبقيت أحجارها، لا تفيد ولاتنفع، ولكن العين الحجر للبشر تضر بقلة الحياء وبالادعاء والتعالى والإيهام أنها ترى ما لا يراه الآخرون! أعتقد أننا نعيش الآن النتيجة الطبيعية لتفشى العيون الحجرية، فى خطاب الثقافة العربي، على مدار عقود تقلب الناس فيها بين أيديولوجية شيوعية واشتراكية وقومية ودينية ومذهبية، كلها تعتبر نفسها سدنة الحقيقة وأصحاب رسالة مقدسة، يجب نشرها وفق معتقداتهم ورؤيتهم وتفسيراتهم للحياة والمجتمع والبشر، بسبب هذه الحالة أغرت المجتمعات العربية الساسة بالاستبداد،على اعتبار إخلاصهم فى خدمة بلادهم قد أصبح حكرا عليهم، فى بلاد غارقة فى الأيديولوجيات المتصارعة بلا ضمير، وأصبحت هذه الاتجاهات أسلحة سياسية لضرب بعضها بعضا، على حساب تقدم الأمة العربية بالفكر المعرفى العلمى النقدى وشاء الله مع خراب الثورات العربية، أن يفضح أصناما شريرة احترمناها ردحا من الزمن احتراما لا تستحقه فتحطمت مع بزوغ الوعى الجديد. العقل النقدى لا يعنى التعنيف والتسفيه والتأنيب، بل على النقيض من ذلك هو حماية المجتمع من الوقوع فى فخ دينامية الأيديولوجيات، المؤدية للصراعات الفكرية، فيقف وطنيون ضد وطنيين ومتدينون ضد متدينين، فيضيع الوطن فى متاهات الخصومات الفكرية، التى أودت ببلاد عربية لمصيرها المحتوم، وبعد هذا الثمن الباهظ للوعى بخطر الأفكار النهائية الوثوقية، علينا تغيير عتبة الدار من أساسها نحو لغة العصر، التى لا تعرض أصنام الأيديولوجيا الحقودة. لم تسقط التيارات الأيديولوجية من السماء، ولكنها نتيجة للمجتمع الذى أفرزها، واستسلم لأصنام الحشد الشعبوى الأيديولوجي، وتكشف الصحراء الثقافية التى أبرزت بنية فكرية لشباب ينساق بسهولة وراء عواطفه وجموح خيالاته، لا يعطى للمعايير العلمية والنقدية أى اعتبار، مستسلما للأفكار الجاهزة، وألقى بتبعة تفسيرها للآخرين، مستخدموا هذه العقول المأدلجة فى السياسة كوقود لأطماع مالية سياسية، لا تمانع أن تكون أدوات للقوى الخارجية، وتتهم الآخرين بذلك، كما تفعل تيارات الإسلام السياسى للمخالفين لها، فتتهمهم بالعمالة لأمريكا والغرب، وترتمى هى فى أحضان ذلك الغرب، تمويلا ومأوى وتحالفا، دون أن يغمض لها جفن فى أعينها الحجرية! لغة العصر هى العلم والبحث العلمى الذى لا يقبل النهائيات، أو الأوصياء على الآخرين، باسم هذه النهائيات الوثوقية للأيديولوجيات التى ثبت فشلها فى تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وأثبتت التجربة المتمسحة بالدين أنها أكثر نيو ليبرالية، من الأنظمة التى أسقطتها، وأشد استبدادا من جميع الأيديولوجيات، بالقهر الاجتماعى وإطلاق الأحكام التقويمية، والنفاق المفضوح فكانوا خطرا على وحدة المجتمع والدولة والوطن، بالتعسف الأيديولوجى الذى أدخلنا فى معارك دونكيشوتيه عفا عليها الزمن! أما المجتمع المغلق لا أفق أمامه، مادام يضع سلم التطور بالعرض، فلا حاضر ولا مستقبل أمامه. الآن نشهد نهاية الداعية الغارق فى أوهامه الأيديولوجية، وأفكاره الجامدة الشكلية العاجزة عن حل مشكلات الحياة، ما لايفهمه أو يطيقه، فأدواته عاجزة عن هذا الفعل الذى يحتاجه الناس، وأدوات المثقف الحقيقى تعتمد على دراسة الواقع وتحليل الأفكار واستشراف المخاطر، وكان المفكر المغربى (عبد الإله بلقزيز) قد بشر فى نهاية التسعينيات بنهاية الداعية، العقائدى المطمئن إلى يقينياته، بوصفها إدراكا صحيحا للعالم، حتى لو لم يعتقد بامتلاكه الحقيقة، ولكنه داعية تبريري، هبط من دور المثقف المنتج للمعرفة إلى الدعاية السياسية، التى جرت إلى لغة الإنكار والإقصاء والعنف فى الحروب الفكرية، ورأى أن المجتمع العربى لم يعد فى حاجة لأدوار ثقافية ينتدب أصحابها أنفسهم لمهمات أكبر من حجمهم، ولا تنتمى إلى حقل المعرفة والثقافة، وتلزم نفسها بما رسمه (ماركس)، من أن مهمة المثقف تغيير العالم، والتى عادت على المجتمع، وأيضا أصحابها، بأقدح العواقب، وطالب المثقفين بالعودة إلى دورهم الحقيقى فى إنتاج المعرفة، وزيادة رأسمالهم منها لتفسير العالم بالالتزام بالنزاهة العلمية والموضوعية فى التحليل والأحكام. وأعتقد بعد عناء أننا وضعنا لنهاية الداعية بكل أشكاله الأيديولوجية بعد أن دفع العرب ثمن ذلك الوعى من دمهم المسفوح، بسبب الدوران فى تلك الدوامة الأيديولوجية، التى دخلها كل من هب ودب، ومنح نفسه دورا تبشيريا رسوليا غير مؤهل له، وسيقطع دابر هذه الآفة، العمل على ايجاد بيئة اجتماعية منتجة، تستوعب طاقة الشباب فى الوحدات الإنتاجية، تحت رعاية الدولة المنظمة، وهو ما فعلته الصين فى صعودها السلمي، والتى استفادت من فشل التجربة السوفيتية، عندما مدت نفوذها الأيديولوجى خارج نطاق قدراتها، فى مثل تلك الظروف التى نمر بها علينا استدعاء الأفكار الناجحة من الشرق والغرب ومن التاريخ، القادرة على تفسير العالم وفهم فلسفته، خاصة أن الوعى العام لفظ كل الدعاة بمختلف أيديولوجياتهم وآمن بضرورة أن يعطى العيش لخبازه، ومؤهل لولادة الخباز. لمزيد من مقالات وفاء محمود