منذ فترة ليست بعيدة كتبت مقالا تحت عنوان كيف تصبح مصر دولة طبيعية؟ طالبت فيه بالسعي نحو التخلص من مظاهر مثل البيروقراطية واتساع القطاع غير الرسمي باتت غير موجودة في غالبية دول العالم المتقدمة, أو الساعية للتقدم بجد وعزيمة وهمة. وبالمناسبة فقد وجدت شكوي كبيرة من أعضاء في الحكومة اليابانيةالجديدة, وكثرة من الشعب الياباني, من سطوة وسخف البيروقراطية وضغوطها الشديدة علي المبادرة الفردية. وكان طبيعيا أن أسأل كم عدد البيروقراطيين أي العاملين لدي الحكومة والسلطات العامة أو باختصار من يحصلون علي شيكات رواتبهم من الدولة في اليابان, وجاءت الإجابة مفاجأة عظمي, فهناك100 ألف موظف فقط في الحكومة المركزية, أما مع احتساب الإدارات المحلية في طول وعرض اليابان فقد بلغت, ويا للهول أو هكذا كانت تعبيرات اليابانيين 360 ألفا, وفقط لا غير. لاحظ أن هؤلاء يديرون اقتصادا في دولة يبلغ حجم ناتجها المحلي الإجمالي5075 مليار دولار, أي خمسة تريليونات وخمسة وسبعين مليارا من الدولارات الأمريكية. وبالمناسبة أيضا يشكو هؤلاء جميعا, البيروقراطيون وغيرهم, من ضعف إنتاجية الشعب الياباني, وتهافت الدافع الإنتاجي لدي الأجيال الجديدة في اليابان. ولكن الغرض هنا ليس الحديث عن اليابان مرة أخري, وإنما الإشارة إلي الحالة التي تعيش فيها البلاد الطبيعية أي التي تسعي إلي تحقيق أكبر قدر ممكن من الرفاهية, بأقل عدد ممكن من الموظفين, وبالطبع أكبر عدد ممكن من العاملين والمنتجين بحق في عمليات إنتاجية وصناعية تتزايد يوما بعد يوم. ولا يمكن الوصول إلي هذه الحالة من التقدم ما لم تجر عملية تطور وتغيير في البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, نعم السياسية, في المجتمع والدولة حتي تخلق الحالة الجديدة التي تصبح هي الطبيعية, ثم تحافظ عليها بعد ذلك من محاولات الردة والتراجع. ومنذ فترة ليست بعيدة أشرت في هذا المكان إلي أن عملية التطور التغيير هذه تحدث في دول العالم بطرق مختلفة, فقد وصلت لها دول من خلال ثورات سياسية كبري ما لبثت أن غيرت من اقتصاد البلاد والقواعد الاجتماعية التي يقوم عليها, كما حدث مؤخرا مع دول شرق ووسط أوروبا الاشتراكية التي انتقلت خلال عقدين فقط إلي صفوف الدول المتقدمة في أوروبا. وهناك دول أخري تقوم بثورات اقتصادية عظمي ينتج عنها معدلات عالية للنمو, ومع الوقت تخلق هذه المعدلات طبقة وسطي وصناعية كبيرة تطالب بالمشاركة في اتخاذ القرار الاقتصادي ثم السياسي فتكون الديمقراطية كما حدث في عدد من الدول الآسيوية ومن قبلهما أسبانيا والبرتغال. وهناك دول تم تغييرها وهندستها بالقوة لكي تكون عضوا في التحالف الغربي بعد أن ثارت عليه وحاربت ضده مثل اليابان وألمانيا; إلا أن النمط الشائع بين دول العالم التي نجحت, هو تلك الدول التي سارت في عملية تدرجية بطيئة قامت علي التحدي والاستجابة, والجدل ما بين عناصر مختلفة في السياسة والاقتصاد والمجتمع والتكنولوجيا جعلتها تنتقل من مرحلة إلي أخري. ودون الدخول في كثير من التفاصيل فإن مصر علي الأغلب تنتمي إلي هذا النمط الأخير منذ ميلاد دولتها الحديثة في عام1805, وبالتأكيد منذ مولد دولتها المعاصرة عام1922 وربما كانت المعضلة مع هذا النمط من التطور أنه لا يبدو فاقعا ظاهرا للعيان, كما أنه يأخذ شكل إجراءات مبعثرة لا يبدو أن هناك رابطا بينها, وهناك شكوكا قوية حول المدي الذي تنقل به المجتمع المصري من حال إلي حال, وفي أحيان كثيرة فإنه يفتح الباب لمن يريد أن يجري التغيير بضربة حظ واحدة من خلال حل سحري اسمه الإسلام هو الحل, والديمقراطية هي الحل, والعلم هو الحل, وهكذا من الأمور التي لا يختلف عليها أحد, ولكنه لا يعرف كيف يمكن توقيعها زمانا ومكانا وآلية في البلد المعني الذي هو في هذه الحالة مصر. وعلي سبيل المثال فإن أحدا لا يعرف علي وجه التحديد المدي الذي وصل إليه المجتمع المدني في مصر الآن واتساعه الهائل رغم القيود الكثيرة عليه; ولا أحد يتصور درجة الانتقال التي حدثت في المجتمع المصري في ظل الثورة الإعلامية الجارية فيه الآن; ولا يبدو أننا نعرف نتيجة عملية الإصلاح الكبري التي جرت في قطاعات البنوك والتأمين المصرية. وفي الآونة الأخيرة تجري عملية واسعة للتغيير يفرض الصخب الشديد الدائر حولها صمتا حول نتائجها وتأثيراتها العميقة علي المجتمع المصري. وأقصد هنا تحديدا عددا من قوانين الضرائب, وقوانين أخري مثل قانون المعاشات والتأمينات الاجتماعية, وقانون مشاركة القطاع الخاص في البنية الأساسية. فالشائع عند مناقشة هذه القوانين أن ينصرف الذهن عن القانون بالحديث عن الوزير المختص, وخاصة إذا ما كان الدكتور يوسف بطرس غالي ومدي ميله إلي الجباية, أو عن مدي العدالة الجارية في القانون, أو كما هي العادة يجري الحديث عن الفقراء وعما سوف تكون عليه حالهم بعد تطبيق القانون الجديد, ولا بأس أحيانا من حشر ضغوط أمريكية مزعومة لكي يكون التشكيك في عملية الإصلاح كلها شرعيا. ولكن الغائب في ذلك كله أن قوانين الضرائب, سواء كانت عن الدخل أو العقارات, أو قانون المعاشات والتأمينات الاجتماعية, أو مؤخرا قانون مشاركة القطاع الخاص في البنية الأساسية, كلها تشكل أجزاء صغيرة من عملية تطورية كبيرة في اتجاه الدولة الطبيعية. وبدون ضريبة الدخل فإن المواطنة في كل دول العالم الطبيعية تصبح لا معني لها, وبدون الضريبة العقارية تصبح المشاركة في اتخاذ القرارات لا سبب وراءها, وبدون هذه الضريبة أو تلك فإن شعار لا تمثيل بدون ضرائب يصبح هو المقابل للشعار التاريخي حول أصل الديمقراطية لا ضرائب بدون تمثيل. وعندما وافق مجلس الشوري مؤخرا علي قانون تنظيم مشاركة القطاع الخاص في مشروعات البنية الأساسية والمرافق العامة, فإنه لم يسع فقط لتوسيع قاعدة تمويل مشروعات مكلفة, أو تحتاج لكفاءة خاصة لإدارتها, وإنما أضاف سرعة جديدة لم تكن موجودة من قبل لعملية التنمية التي تشمل ليس فقط تقديم تسهيلات للمجتمع, وإنما توسيع مساحة الطبقة الوسطي, وإدخال المجتمع المحلي في شبكة واسعة من القرارات التي يستحيل التعامل معها دون التشاور مع المجتمعات المحلية وهو مايمكن اعتباره الأساس الموضوعي للديمقراطية التي هي واحدة من أساليب إدارة الموارد. وعلي السطح فإن مشروع قانون التأمينات الاجتماعية يحمل بعدا اجتماعيا في المقام الأول, حيث يشمل جميع الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها المؤمن عليهم في القانون المعمول به في الوقت الحالي, بالاضافة إلي احتساب المكافأة الخاصة بنهاية الخدمة التي سوف يتم حساب اشتراكاتها علي أساس الأجر الإجمالي الفعلي الذي يتقاضاه العامل بدلا من الأجر الأساسي فقط, كما هو متبع في القانون الحالي. كما أنه يضع رعاية الفقراء علي قمة أولوياته, مع توفير آليات جديدة للرعاية تعمل بشكل أكثر شفافية وبكفاءة تضمن تحقيق أعلي منفعة للمؤمن عليهم والحفاظ علي مستوي معيشتهم. وانطلاقا من ذلك, سوف يتم توفير حسابات تكافلية لتغطية جميع الأخطار المنصوص عليها للمؤمن عليهم والذين لا تكفي الحسابات الشخصية الخاصة بهم لتمويل الحد الأدني للمعاشات التي يستحقونها, إلي جانب إنشاء حسابات شخصية للمؤمن عليهم لمعاش العجز والوفاة, حيث نص المشروع الجديد علي ضمان معاش ب65% من إجمالي الأجر الأخير أو25% من متوسط الأجور علي المستوي القومي أيهما أكبر, فيما قضي بتخصيص معاش يقدر ب80% من إجمالي الأجر الأخير بالنسبة لخطر إصابة العمل. ومن يريد معرفة ما هو أكثر عن مزايا القانون فإن بوسعه الإطلاع عليه لأنه بالفعل يتلافي سلبيات كثيرة للقانون الحالي و يسمح للأبناء بالجمع بين معاش والديهما دون حدود, كما يسمح للأرملة أو الأرمل بالجمع بين المعاش المستحق لهما, وكذلك الدخل من العمل أو المهنة دون حدود, إلي جانب سماحه بجمع المستحق للمعاش بين المعاشات المستحقة له عن شخص واحد دون حدود, كما أن الشخص الذي يحصل علي معاش إصابة عن والده ومعاش الشيخوخة عنه أيضا يسمح له بالجمع بينهما. ولكن المسألة ليست البعد الاجتماعي للقانون وإنما ما يفرضه من نتائج اقتصادية حيث يفرض علي من في سوق العمل أن يدخر9% من دخله لمدة36 عاما. وتستخدم هذه المدخرات في الاستثمار, مما يسهم في زيادة معدلات الادخار إلي18% مقابل14% في الوقت الحالي, وهو ما سوف تنتج عنه زيادة في الاستثمارات المحلية إلي18%, الأمر الذي يسهم في النهاية في ارتفاع نسبة النمو ما بين8.5% إلي9% سنويا. وهكذا تكتمل الدائرة, وتتجمع القطع المتناثرة والمساهمة في التغيير الجاري التي تبدو كما لو كانت لا رابط بينها, أو أن التأثير المتبادل فيما بينها غير موجود, ولكن نتائج ذلك من العمق بحيث تجعل البعد السياسي متصدرا عن حق للساحة حيث السياسة في النهاية هي المنظم, والمدير, والمدبر, في كل ما يجري. فكيف تكون السياسة جزءا من عملية التطور وليست إقحاما عليه؟ تلك هي المسألة؟! [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد