نعيش علي الخريطة وداخلها وعلي حدودها؛ وفي مصر ومنطقة الشرق الأوسط كان للخريطة وتفاعلاتها وحددوها فعل السحر في التهاب الأحداث وتطورها منذ فجر التاريخ البشري؛ وقد شهدت المحروسة والمنطقة تغيرات غير مسبوقة علي الخريطة السياسية والاجتماعية والإقتصادية والأمنية في الأيام والشهور والسنوات التي تلت اندلاع شرارة ثورات الربيع العربي من تونس في 17 ديسمبر 2010م، ومازال هذا التفاعل قائما ومستمرا ولم تتحدد بعد الصورة النهائية لما سوف تستقر عليه وحجم التغيير الذي نتج عنها كتوابع لزلزال التغيير ودعوات الإصلاح وأيضا الفوضي.. في مصر تغير النظام مرتين منذ اندلاع ثورة 25 يناير 2011م وصولا إلي ثورة 30 يونيو 2013م وما تلاها من أحداث، وشهدت تغييرا شاملا في خريطة القوي السياسية التي تتصارع علي الحكم بعد أن سيطر الأخوان علي مقاعد السلطة برلمانيا ورئاسيا ولم يمر عام علي حكمهم ومحاولاتهم لأخونة كل مؤسسات الحكم وإقصاء كل القوي والتيارات السياسية الأخري حتي ثار الشعب عليهم ليعيد السياسة إلي المربع واحد وتوضع «خريطة المستقبل» التي أعلنت في 3 يوليو؛ و تم بموجبها وضع دستور جديد بديلا عن دستور الإخوان، وأجريت انتخابات رئاسية فاز بها الرئيس السيسي وفي انتظار الخطوة الثالثة علي الطريق في منتصف مارس 2015 وهي الانتخابات البرلمانية . و في ثنايا الطريق إلي مارس 2015 جرت مياه كثيرة تحت الجسر ووقعت العديد من الأحداث التي اتسمت بالعنف والإرهاب والمواجهات الدامية علي كل المستويات؛ تفجيرات واستهداف لجنود وضباط ومدنيين وطابور طويل من الشهداء لتدخل مصر دائرة الدول التي تواجه الإرهاب علي خريطة الشرق الأوسط وخاصة في سيناء؛ و بالتوازي كانت المعركة الدبلوماسية الشرسة لمواجهة حالة الإنكار لثورة 30 يونيو وانقسمت خريطة العلاقات بين أعداء وأصدقاء للثورة المصرية و كانت المنظمات والهيئات الدولية مسرحا كبيرا لتلك المواجهات؛ ولكن يظل الملف الأكبر هو الإقتصاد وتحدي الفقر والتهميش والبطالة الذي دفع بالرئيس والحكومة إلي إحداث تغييرات كبري لإعادة الحياة إلي خريطة مصر الصماء منذ سنوات فكان مشروع حفر قناة السويس الجديدة وفرص للإستثمار علي كل بقعة للخروج من نفق الأزمة والحصار والعيش تحت ضغوط الاقتراض والمنح وندرة الموارد؛ كل ذلك في أطار ممارسات لحقوق إنسان يتحفظ «البعض» عليها وقوانين لا تراعي في بعض منها أن مصر شهدت ثورتين تطالبان بالحرية والعدالة الاجتماعية مع غياب واضح لرؤية سياسية متكاملة للخروج من دائرة العنف إلي دائرة السياسة. لهذا أجمعنا في الأهرام ويكلي علي تقديم عدد سنوي خاص يحاول قراءة أبعاد الخريطة ويفك طلاسمها ليس في مصر فقط بل في المنطقة والعالم حيث يشهد الشرق الأوسط موجات إرهابية حولت ربيعها إلي شتاء قارس وخريف كئيب وصيف ملتهب بلا رحمة؛ فسوريا في قلب الصراع يقاتل علي أرضها جماعات تكفيرية من أكثر من 80 دولة مما تسبب في تشريد الملايين و من فضل البقاء داخل حدودها يعيش حياة لا آدمية ينتظر الموت برصاصة أو من الجوع والبرد؛ وأمتد الصراع إلي العراق حيث داعش التي استولت علي معظم المحافظات السنية استغلالا للصراع الطائفي بين السنة والشيعة الذي اشعلت شرارته سياسات حكومة المالكي المقالة فقامت داعش بتشريد وقتل المسيحيين والإيزيديين والأكراد والأرمن وكل من يختلف معهم عقائديا وفكريا وأصبحت تشكل خطرا إقليميا بإعلان بعض الجماعات المسلحة في عدد من بلدان الربيع العربي مبايعتها لزعيمها وخليفتها المزعوم أبو بكر البغدادي. علي الخريطة تعيش ليبيا حالة من التفكك إعادتها إلي عصور ما قبل الدولة الوطنية ذات السيادة فلم تعد هناك سيطرة علي الموارد والحدود وزادت النعرة القبليه وانتشرت الجماعات المسلحة من كل حدب وصوب وأصبح مجرد التفكير في حلم الفيدرالية أملا بعيد المنال؛ والحال في اليمن لا يختلف كثيرا عن دول المنطقة بعد أن اعتمدت القوي السياسة التقسيم الفيدرالي للدولة التي تسيطر علي مضيق باب المندب، فاليمن «السعيد» في طريقة لأن يصبح 6 مناطق تخضع لقوي طائفية ودينية وعرقية في حين سيطر الحويثون بدعم من إيران علي كل مرافق الدولة واخضعوا الرئيس والحكومة ومعظم مؤسسات الدولة لنفوذهم. علي الحدود جنوبا وشمالا للخريطة المصرية مازالت القضية الفلسطينية و حالة الانقسام بين غزة والضفة تزيد من تقسيم المقسم فيما يعد بمنزلة دعم مباشر لكل خطط الاستيطان وتهويد القدس ومعظم المدن والقري إضافة للدور الإقليمي الذي تلعبه حماس كجناح من التنظيم الدولي للإخوان وتأثيرها وتأثرها بحركة المد والجزر والسقوط المدوي للتنظيم في عدد من بلدان المنطقة وفي مقدمتهم مصر؛ و هي حالة تشبه إلي حد كبير الحالة السودانية التي تقع تحت تأثير التنظيم الدولي للأخوان وتحدد موقفها مما يحدث في مصر و علاقاتها بالشركاء علي الأرض مع دولة جنوب السودان وغربا في دارفور ومع دول حوض النيل وقضايا المياه والسدود. و قد شهدت خريطة العالم وإفريقيا مشاهد لا تختلف في تفاعلاتها وتطورها عن تطورات الشرق الأوسط وقلبه مصر؛ حيث كان لسيطرة روسيا علي جزيرة القرم تآثير مهم في تغيير شكل الخريطة ودفع الدول الأوروبية والولايات المتحدة لإعادة دراسة خريطة البترول والغاز و مراجعة شاملة للعلاقة مع موسكو ورجلها القوي فلاديمير بوتين وتحديد سبل المواجهة والبدائل لأوراق الضغط الروسية و انتقل الصراع إلي عدد من الملفات الدولية والإقليمية وفي مقدمتها الملف المصري والسوري والإيراني ودول الأتحاد السوفيتي القديم. إلا أن الخريطة لا تكتمل دون قراءة ذهنية ونفسية في عقلية المواطن المصري بعد ثورتين ونظامين ومشاهد العنف والقتل والحوادث والتحرش الجنسي وثقافة الزحام والفوضي؛ وكذلك تحليل للمشهد الإعلامي الذي يغذي تلك العقول ويسهم في حالة الفوضي في العقل والشارع والأسرة بين إعلام قومي بلا دور وإعلام خاص يبحث عن دور. إنها الخريطة التي يعتقد البعض أنها صماء لا حياة فيها وأنها عبارة عن مجموعة من العلامات والخطوط والألوان والتضاريس والبحار والمحيطات والمؤشرات والمفاتيح؛ إننا في هذا العدد نحن نحاول القراءة أبعد من هذا ونحاول قراءة أحداث عام ينتهي بكل أحداثه وعام مقبل بخريطة ربما تكون جديدة بأحداث وفاعلين جدد ولكن المؤكد أنه لا فرار من المصير علي خريطة العالم شرقه وغربه شماله وجنوبه لنظل جزءا من الخريطة. لمزيد من مقالات جلال نصار