المعلومة التى تقول إن المغرب استضاف فى شهر واحد أكثر من ثمانية مؤتمرات عالمية، تعطينا انطباعا أوليا بأنها مجرد وسيلة للترويج السياحى، ولكن من يتعرف على أسماء وعناوين هذه المؤتمرات ووزن الشخصيات المشاركة فيها، وحجم الاهتمام الرسمى المغربى بكل صغيرة وكبيرة بما يدور فيها وما يصدر عنها من توصيات وقرارات، يتأكد أن هدف التنشيط السياحى ربما يأتى فى مرتبة لاحقة فى قائمة من الأهداف الاستراتيجية الأخرى، التى أهمها الترويج لاسم المغرب عالميا. بالفعل، السياحة المغربية استقطبت فى عام 2013 أكثر من عشرة ملايين سائح، بزيادة نسبتها 7٫2% عن عام 2012، واستفادت فى ذلك من سياسة الانفتاح التى ينتهجها الملك محمد السادس، والتى جعلت المغرب يقتحم بقوة عصر العولمة، فضلا عن نجاح بلاده فى جذب السائحين المنسحبين عن بعض الوجهات السياحية التقليدية فى المنطقة بسبب اضطرابات ما يعرف ب”الربيع العربى”، ويكفى القول إن السياحة تشكل 10% من الناتج المحلى الإجمالى للمغرب حاليا، وإيراداتها تتخطى 7.2 مليار دولار. وبالتأكيد، كان المنتدى العالمى الثانى لحقوق الإنسان الذى استضافته مدينة مراكش أخيرا أقوى وأفضل ترويج للسياحة المغربية، ولكنه كان أيضا وسيلة ناجحة لجذب مزيد من الاستثمارات، فقد نجح فى إظهار المغرب كدولة هادئة مستقرة بعيدة عن أنواء المنطقة، وتحترم حقوق الإنسان، وتنفذ إصلاحات سياسية ومجتمعية واسعة وناجحة. هذا المنتدى كان الأهم من نوعه فى المغرب هذا العام بلا مبالغة، فقد جرى بمشاركة ستة آلاف شخص من مائة دولة، والذى أراد المغرب من خلاله باختصار توصيل رسالة واضحة للعالم مفادها أن البلاد حققت طفرة فى مجال الاهتمام بحقوق الإنسان، وأن لديها تجربة مميزة تود أن تستعرضها أمام دول العالم كله بما فيها دول المنطقة التى تواجه انتقادات عديدة فى هذا المجال من الدول الكبرى التى تنتهك هى أيضا حقوق الإنسان! منتدى مراكش الحقوقى حظى بأهمية خاصة، لأنه كان فرصة لإجراء مناقشات عميقة حول ثلاثة استحقاقات دولية مهمة تحل فى عام 2015، إذ سيشهد تقييم نتائج مؤتمر بكين حول حقوق المرأة الذى عقد منذ 20 عاما، والتحضير لمؤتمر باريس حول المناخ، وإعداد أهداف التنمية لما بعد 2015، فضلا عن موافقته الذكرى 25 للاتفاقية الدولية لحقوق الطفل. وعلى الرغم من مقاطعة عدد من المنظمات الحقوقية المغربية المنتدى احتجاجا على استمرار تردى أوضاع حقوق الإنسان فى البلاد، فإن صوت المقاطعين غطى عليه تماما صوت المشاركين فى المنتدى الذين قدموا شهادات حقوقية إيجابية للمغرب. الشهادة الأولى كانت من بودلير ندونج رئيس مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الذى قال إن ما حققه المغرب فى هذا الصعيد أمر مشجع، بينما أكدت نافى بيلاى المفوضة السامية السابقة لحقوق الإنسان أن تنظيم المغرب للمنتدى يؤكد انخراط المغرب والتزامه الواعى باحترام وحماية حقوق الإنسان. كما أكد إدريس اليزمى رئيس المجلس الوطنى لحقوق الإنسان أن احتضان المغرب للمنتدى يعد انتصارا كبيرا للمملكة، واعترافا دوليا بالإنجازات التى حققتها فى مجال حقوق الإنسان. وهناك خبير سويسرى فى مجال حقوق الإنسان ومتخصص فى قضايا العالم العربى، وهو جان مارك ماير، الذى اعتبر أن المنتدى “يحمل اعترافا دوليا حقيقيا بمجهودات المغرب” فى مجال النهوض بحقوق الإنسان، إذ إنها المرة الأولى التى يقام فيها حدث بهذا الحجم فى إفريقيا، وهو الأكبر فى مجال حقوق الإنسان عالميا”. العاهل المغربى لم ينس الاستفادة من هذا الحدث فى تدعيم مكانة بلاده فى القارة السمراء، فقد أكد فى كلمته فى افتتاح المنتدى، والتى ألقاها نيابة عنه وزير العدل والحريات مصطفى الرميد، إن إفريقيا بلغت درجة من النضج تؤهلها للمساهمة فى تحديد المعايير العالمية للحقوق الإنسانية، وأضاف أن “الدول النامية، وإفريقيا بصفة خاصة، تطمح إلى لعب دور فاعل فى عملية إنتاج القوانين فى مجال حقوق الإنسان، ولا ترضى بأن تظل مجرد مواضيع للنقاش والتقييم، أو حقل للتجارب”، مشيرا إلى أن “إقرار الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان تم فى فترة كانت فيها إفريقيا غائبة عن الساحة الدولية (…) وبما أن إفريقيا لم تسهم فى وضع القانون الدولى لحقوق الإنسان، فإنها مطالبة بإغنائه، بثقافتها وتاريخها وعبقريتها، ليسهل عليها تبينه، لأن إفريقيا لا يمكنها أن تظل مجرد مستهلك لقوانين دولية، تمت صياغتها فى غياب تام للقارة، كما أنها لا ينبغى أن تظل، دائما، موضوع تقارير دولية وتقييمات خارجية”. والحق أن المغرب انخرط فعليا، منذ سنوات عديدة، فى بناء و توسيع فضاء الحرية، واحترام حقوق الإنسان، وتولدت عنه تجربة فريدة من نوعها فى ميدان تعزيز وحماية حقوق الإنسان، حيث اتبعت مسارا خاصا ومتميزا وبوتيرة متناسبة، تأخذ بعين الاعتبار الثوابت والاختيارات الاستراتيجية وخصوصيات البلاد، وهذا ما سبق أن أكده أيضا الملك محمد السادس فى خطابه بمناسبة الذكرى 51 لصدور الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، حيث قال إن المغرب يؤمن إيمانا راسخا بأن احترام حقوق الإنسان والالتزام بالمواثيق الدولية المكرسة لهذه الحقوق ليس ترفا أو موضة، بل ضرورة تفرضها مستلزمات البناء والتنمية، وعنصر مكمل لنهج التعددية الحزبية والتسامح والشرعية التى ارتضتها المغرب أساسا للحياة السياسية والمؤسساتية، فضلا عن اقتصاد السوق وحرية المنافسة. وقد ولت سنوات التوتر بين القصر والمعارضة بغير رجعة، واسم اللواء أوفقير أصبح جزءا من الماضى بالنسبة لمعظم المغاربة، وهيئة الإنصاف والمصالحة التى تشكلت فى المغرب تقوم بعمل جيد فى التحقيق فى التجاوزات التى ارتكبت فى الماضى. صحيح أن الانتقادات ما زالت توجه إلى المغرب من بعض الجهات فى الداخل بسبب بعض أوضاع حقوق الإنسان، ولكن هذا مردود عليه بأن هذه الأوضاع جاءت كرد فعل على تفجيرات الدار البيضاء عام 2003، والتى دفعت الحكومة إلى إصدار قانون محاربة الإرهاب الذى أعطى القوات الأمنية الحق فى القبض على الإرهابيين المشتبهين، كما أن هذه الاعتقالات جرى معظمها فى عامى 2004 و2005، وساعدت كثيرا فى استقرار الأوضاع الداخلية فى البلاد، ولم ترد معلومات بعد ذلك عن تجاوزات جديدة، هذا إذا اعتبرنا حماية مقدرات الدولة وتأمين المواطنين نوعا من التجاوزات. أما بالنسبة لحرية التعبير والإعلام فى المغرب، فهناك من يقول إنها شهدت تحسنا، وهناك من ينادى بالعكس، وإن كان الأمر المؤكد أن هناك بعض الخطوط الحمراء التى لا يمكن تجاوزها، وهى خطوط يراعيها العاملون فى الحقل الإعلامى المغربى من تلقاء أنفسهم، أى بشكل ذاتى، يساعد على ذلك ملكية الحكومة معظم وسائل الإعلام، ومن هذه الخطوط : النظام الملكى، والملك، وسلامة البلاد ووحدة أراضيها، وقضية الصحراء المغربية، ومن يتجاوز هذه الخطوط يتعرض لمشكلات عديدة كالدعاوى القضائية والتشهير. وبغض النظر عما يقال عن استمرار التجاوزات أو الانتهاكات لحقوق الإنسان فى المغرب، فإن من أبرز ما يميز هذا البلد تعدديته السياسية والحزبية والدينية والعقائدية والعرقية، والقوانين التى اتخذها لتحسين أحوال المرأة والطفل والأسرة. ومما ساعد كثيرا على تهدئة الوضع الداخلى فى المغرب، رد الفعل السريع من جانب الملك محمد السادس على الاحتجاجات التى اندلعت فى البلاد فى خضم الربيع العربى عام 2011 للمطالبة بإصلاحات، حيث سارع باتخاذ قرارات أرضت الشارع كثيرا وهدأته، فكان البرنامج الإصلاحى الذى تضمن دستورا جديدا تمت الموافقة عليه بأغلبية 98%، ويشمل توسيع صلاحيات البرلمان وضمان استقلالية القضاء وتحويل النظام الملكى الدستورى إلى نظام شبيه بذلك المعمول به فى الديمقراطيات الغربية، إضافة إلى الاعتراف بالأمازيغية كلغة رسمية بجانب العربية. وهذه الرسائل كلها نقلها المغرب للعالم من مراكش، رغم انتقادات المجتمع الحقوقى المغربى للمنتدى الأخير.