كانت آمنة تقف في حجرة الباشمهندس، وهو يحاول أن يجذبها تجاهه فتتمنع وترد بدلال «لا لا ياسيدي لا لا ياسيدى»، وتجري منه.. يعد هذا المشهد من المشاهد القليلة التى قدمتها سيدة الشاشة فاتن حمامة في مشوارها، وهي تقدم الإغراء.. وحده المخرج هنري بركات هو الذي كان قادرا على إقناع فاتن حمامة بأن تؤدي مثل هذا المشهد. المخرج الكبير الذي يحتفل مهرجان القاهرة السينمائي بمئويته، من خلال إصدار كتاب عنه، وإقامة معرض لأفيشات أفلامه، فى لفتة نبيلة للاحتفال بذلك المخرج صاحب المشوار الطويل والمتنوع، والذي كان يملك أسلوبا خاصا يميز أفلامه، فهو صاحب مدرسة البساطة والعمق في آن واحد.. بركات من المخرجين الذين استطاعوا التعبير عن المشاعر الإنسانية ببساطة تأسر القلب، لذلك تحولت العديد من أعماله إلى تحف كلاسيكية في تاريخ السينما المصرية، حيث قدم ما يزيد عن ال100 فيلم، وظل يعمل ولم يترك الكاميرا حتى وهو في ال80 من عمره. المدهش حقا في سينما بركات، هو ذلك التنوع والثراء سواء على مستوى الموضوع، أو الشكل السينمائي، فهو صاحب «أمير الانتقام» تلك المعالجة الملحمية والمأخوذة عن رواية «الكونت دي مونت كريستو» للفرنسى ألكساندر ديماس، في حين قدم الرومانسية الشديدة في فيلم «شاطئ الغرام»، والدراما التى تحمل بعدا تراجيديا في «دعاء الكروان» و«الحرام»، وبنفس الحس الإنسانى المتفرد يقدم فيلما كوميدياً بعنوان «عفريته هانم» أو فيلم سياسي يتحدث عن الوطن ويحارب الاحتلال في «غريب في بيتى»، و«الباب المفتوح» وهي الأفلام التى مازلنا نستدعيها ونحفظ الكثير من مشاهدتها ولا نمل أبدا من تكرار مشاهدتها، بل أحيانا ما نبحث عنها في القنوات التى تبث تلك الأفلام الكلاسيكية، وقد يرجع ذلك إلى الحس الشاعري الذي يربط بين جميع هذه الأفلام رغم اختلافها. كان بركات يلتفت لممثليه، ويخرج منهم أفضل ما عندهم، بوصفهم أحد عناصر الفيلم السينمائي، إضافة إلى اهتمامه بباقي العناصر السينمائية لذلك هناك مشاهد لا تنسى، وجمل موسيقية تميز أفلامه، مثل موسيقي فيلم «أفواه وارانب»، و«في بيتنا رجل»، أما المشاهد التى باتت من الكلاسيكيات ونستدعيها _( مشهد مقتل هنادي بدون أن نرى نقطة دم على الشاشة، مشهد حسن الهلالي في تلك الزنزانة الضيقة في أمير الانتقام، مشهد فاتن حمامة وهي تلد طفلها في فيلم الحرام وكيف جسدت معاناة امرأة وقعت فى الرذيلة، بدون أن تصرخ، مشهد زبيدة ثروت وهي تحاول أن تخفي إبراهيم من تطفل عبد الحميد ابن عمها في فيلم في بيتنا رجل وكيف انتهي المشهد بتبادل النظرات بين الثلاثة زبيدة ورشدي وعمر الشريف، مشهد فاتن حمامة وهي تجري على رصيف محطة القطار معلنة عن تمردها وتحررها من كافة القيود الابوية وغيرها من المشاهد الكثيرة )_. كانت المنتجة آسيا هي من اكتشفت هذا الرجل، حيث كانت تبحث عن مخرج لفيلم جديد بعد أن تركها المخرج أحمد جلال، بركات الذي بدأ حياته الفنية كمخرج مساعد، لقب بعدها ب«شيخ المخرجين»، لم يقتصر اهتمامه بالإخراج فقط، بل استطاع أن ينمي وعيه وإدراكه الخاص بالمونتاج ، وهو ما وضح في إيقاع أفلامه ذلك الإيقاع اللاهث السريع كان أكثر المخرجين إنتاجًا للأعمال السينمائية، فهو ثالث ثلاثة مخرجين اقتربوا من المائة فيلم.. ولد بركات في 11يونيو عام 1914 بحي شبرا بالقاهرة، لعائلة من أصل لبناني، حصل على ليسانس الحقوق وبعدها سافر إلى باريس ليدرس الإخراج السينمائي على أصوله، ليعود إلى مصر ويبدأ رحلة الفن الطويلة، بعد أن تخرج من كلية الفنون الفرنسية بالمنيرة عام 1935. أثرى الساحة السينمائية بأكثر من 100 فيلم بدأها بفيلم «الشريدة» عام 1942 بطولة حسين رياض وزكي رستم، حيث قدم تراثًا كبيرًا من الأعمال الروائية ومنها، «المتهمة»، «القلب له واحد»، «الهانم»، «العقاب»، «الواجب»، «عفريتة هانم»، «آمال»، «لحن الخلود»، «موعد غرام»، «دعاء الكروان»، «في بيتنا رجل»، «أمير الدهاء»، «الباب المفتوح»، و«الحب الضائع». قدَّم بركات مجموعة من الأفلام الغنائية لأبرز المطربين المشهورين، فكان رائدًا من رواد الرومانسية في السينما المصرية، حيث قدم 10 أفلام مع فريد الأطرش و3 لعبد الحليم حافظ، و3 لليلي مراد، وفيلمين لصباح، وفيلمين لمحمد فوزي، وفيلمين لفيروز، وفيلمين لهدي سلطان. قدَّم مع فاتن حمامة 18 فيلمًا سينمائيًا من أبرزها «دايما معاك»، «ارحم دموعي»، «الخيط الرفيع»، «ليلة القبض على فاطمة»، و«أفواه وأرانب»، وتم تكريمه في مهرجان «مونبييه» الفرنسي عام 1992مع سيدة الشاشة العربية وخصص لهما أسبوعًا كاملًا. كان المبدع الكبير يدين لبديع خيري بالكثير، حيث كان يحثه على ألا يتوقف عن العمل، وألا يختار وينتقى ، فعليه أن يفعل كل شيء ولذلك فإن أعماله كانت خليطًا مدهشًا من كل الألوان، ربما لهذا لا تستطيع أن تسرد قائمة سريعة له. وعلى صعيد المهرجانات التي شارك بها وحصل فيها على جوائز، فقد شارك في مهرجان برلين بفيلم «دعاء الكروان» الذي حصل على جائزة أحسن فيلم عام 1960، كما شارك بفيلم «في بيتنا رجل» في مهرجان نيودلهي وحصل على جائزة أحسن فيلم عام 1961، وشارك بفيلم «الباب المفتوح» في مهرجان جاكرتا، وحصل على جائزة أحسن فيلم وأحسن تمثيل للفنانة فاتن حمامة، وحصل على جائزة أحسن فيلم في مهرجان فالنسيا عن فيلم «ليلة القبض على فاطمة»، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة عام 1995، كما حصل على وسام من مهرجان الإسكندرية عام 1991، ومهرجان القاهرة الدولي عام 1994.