«دفاتر التدوين» (كما يطلق عليها الكاتب)، الغريبة والآسرة، هذه السيمافورات تكون سجلا يوميا تغذيه من الصفحة الأولى إلى الأخيرة الأحلام التي تثيرها القطارات، على نغمات عرباتها وعوالمها المتفردة، بدءا من محطة القاهرة، الإسكندرية، زيوريخ وموسكو .. الاسم وحده يفتح عالما قائما بذاته، عالم السكك الحديدية وإشاراتها الكهربائية بالطبع، ولكن أيضا ذكريات التليغراف على ظهر السفينة، عطر الماضي والحنين .. هذه الدفاتر، التي انتهى منها عام 1997، تسرد حكاياها على مدي خمسة عشر عاما بقدر غامض من الزوال يجعل جمال الغيطاني يطمس عامدا الحدود بين السيرة الذاتية والخيال، بين الذكريات والمستقبل. المشاهد التي عاشها تندمج بالأحلام، والسرد يتحول إلى تأمل. يعتبر الغيطاني واحدا من أكبر كتاب مصر المعاصرين، خاصة منذ قدم «كتاب التجليات» (دار نشر سوي 2005)، وحتى النظرة المتسامحة التي ينظر بها اليوم إلى تولي المشير عبد الفتاح السيسي للسلطة التي قد تسبب له انتقادات. ولد الغيطاني عام 1945 في قرية جهينة بصعيد مصر، في عائلة فقيرة كان والده يقبل أن يرتدي ملابس قديمة لكنه لم يقبل بها أبدا لأطفاله. وفي شبابه، عمل رساما لزخارف السجاد، وهو نشاط يتقارب من وجهة نظره مع الكتابة وغذتها بالصور والألوان. ثم أصبح مراسلا حربيا لصحيفة أخبار اليوم من 1969 حتى 1976، بعد أن سجن في أكتوبر 1966 لانتقاده جمال عبد الناصر ... الترحال والكتابة يرتبطان ارتباطا وثيقا من وجهة نظره، والأولى تعد مرادفا للقطارات منذ الطفولة: «أحمل داخلي محطة الرحيل. ما زلت أريد أن ألمس لحظات انطلاق هذا القطار الأول، الذي أقارن به كل القطارات الأخرى، هذا القطار الذي يتوجه نحو أرض الجنوب». لقد أبرز الغيطاني أمام أعين قرائه مجتمعا حقيقيا للسكة الحديد، حيث يسافر الناس في الدرجة الثالثة وتبقى الدرجة الأولى محجوزة للمحظوطين. وصف يعتمد على الاستعارات، سرد متوال يبهرك، فهو رواية وفكرة فلسفية في آن واحد عندما يتحدث عن سويسرا، تتداعى على الأذهان «الرسائل الفارسية» التي كتبها مونتسكيو ليصف الغرب. كل هذا لا ينفي لحظات من الإثارة، خاصة فيما يتعلق بالوجود النسائي الذي يجتاز مشهده العقلي. وردا على سؤال «هل توجد علاقة بين النساء والقطارات؟» الإجابة المقدمة تبدو مخيبة للآمال، لأنها إذا كانت موجودة فهي بدون شك علاقة الرغبة التي تثيرها النساء فيه، شابات وأكبر سنا، فلاحات وبنات المدينة، متواضعات أو مستفزات، فإنهن لا يفعلن غير الظهور بشكل متداخل في لقاءات ناجحة أو مخادعة، فلا يمكن أن تعرف ما إذا كن من نسج الخيال أو نتاج الواقع. فكلهن، النظرة لهن والحديث عنهن، ينبع من مشاعر الكاتب، لينتهين بأن تجتمعن كلهن، فيما لا يتجاوز أشكالهن.