فى السيرة الذاتية لمعظم النابغين والمفكرين يوجد دائما مدرس.. لا يستطيع كاتب السيرة أن ينساه.. مدرس دفعه دفعا فى طريق التفوق.. وحرض موهبته على الانطلاق.. وحثه على التقدم والإبداع.. وحرره من الخوف والتردد وعدم الثقة بالنفس. فالموهوب يحتاج إلى عين قناص تلتقطه من بين عشرات التلاميذ.. يحتاج إلى مدرس مثل أحمد نجيب الهلالى، الذى قال عنه تلميذه يحيى حقى فى سيرته الذاتية التى أطلق عليها اسم «كناسة الدكان»: (حين دخل علينا لأول مرة.. حسبناه لنحافته وصغر سنه تلميذا مثلنا.. لكن ما أن بدأ يتكلم حتى انعقدت ألسنتنا إعجابا به.. فقد هدم فى درسه الأول كل ما بين أيدينا من كتب قديمة بالية بكلام جديد تشع منه الحياة والحيوية).. أيضا لم ينس يحيى حقى أستاذه ذا الوجه البشوش الشيخ أبوزيد مدرس الشريعة فى مدرسة الحقوق العليا، والذى وصفه بأنه: (كان دائم الابتسام.. يعالج الشريعة حتى يحيلها شرابا سائغا لو استطاع لصبه فى حلوقنا صبا). يحتاج التلميذ الموهوب إلى أستاذ مثل «ألفريد كنزى» عالم النفس الشهير فى أربعينات القرن الماضى، الذى امتزجت علاقته بتلاميذه بالدفء والمحبة، فقد كان يقلق على صحتهم إذا أعتلت، وكان يتطوع لتقديم النصح لهم، وكان يغضب كما يغضب الأب إذا لم يتبعوا إرشاداته.. وقد وصفه واحد من تلاميذه قائلا: (معه كنا نشعر نحن التلاميذ والمعاونين بأننا أسرة واحدة، كنا نحاول أن نتفوق بعد أن فتنا هذا العبقرى الذى سعدنا بصحبته وهو يدفعنا دفعا فى طريق العلم والبحث.. لا أعرف رجلا عشق مهنته لهذا الحد.. فقد كان يواصل العمل ثمانى عشرة ساعة يوميا، لدرجة أنه كان أحيانا يضطر إلى ملازمة الفراش من شدة الإرهاق). يحتاج الموهوب إلى أستاذ من أ جله يحب التلاميذ الذهاب إلى المدرسة.. فحين أعرب الطالب أحمد لطفى السيد عن ضيقه من مدرسة المنصورة الابتدائية، وطلب من والده أن ينقله إلى مدرسة أخرى قائلا له إنه تعيس ويخشى أن ينسى بسبب تعاسته فى هذه المدرسة القرآن الكريم الذى حفظه.. ابتسم والده وقال له: (ليه تنسى القرآن.. اقرأ كل يوم جزءا منه وأنت لا تنساه.. وخليك فى المدرسة). يقول لطفى السيد الذى أصبح أحد أعظم المفكرين المستنيرين فى مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين: (بقيت فى المدرسة بالرغم من كراهيتى لها.. حتى جاء إليها أستاذ لمادة اللغة العربية اسمه سيد أفندى محمد.. فتحولت هذه الكراهية إلى حب). وهكذا أصبحت المدرسة بفضل هذا المدرس المتفانى فى مهنته مكانا جذابا للطالب أحمد لطفى السيد الذى اختاره زملاؤه حين انتقل إلى مدرسة الخديوية ليقابل وزير المعارف على مبارك ليطلب منه أن تعفيهم إدارة المدرسة من الاختبار الذى كان يجرى كل شهر.. لينصرفوا إلى المذاكرة استعدادا لامتحان نهاية العام. ويصف لطفى السيد ما حدث خلال اللقاء مع الوزير قائلا: (حين ذهبت إليه وجدت سبورة فى مكتبه.. نعم سبورة فى مكتب الوزير.. لماذا؟.. لأ ن الوزير لم ينس أنه مدرس ومرب وأب.. ولأن الوزير كان يختبر كل تلميذ يتقدم إليه بطلب.. فلا يلبى طلبه إلا إذا أجاب إجابة صحيحة على سؤال فى المواد الرياضية أ و العلمية.. فلما أوضحت السبب الذى جئت من أجله.. طلب منى أن أقف أمام السبورة لأبرهن على إحدى النظريات الهندسية./. وحين فعلت.. وافق على طلبى). إنها ذكريات من زمن جميل.. كان فيه الأستاذ يبتسم.. وكان فيه الوزير يقابل التلاميذ ويستمع لمطالبهم.. وكان فيه المدرس يصب العلم صبا فى حلق طلابه .. وكان فيه المعلم يعشق مهنته ويدرك عظمة رسالته.. زمن لم تكن فيه دروس خصوصية.. ولا امتحان الشهادة الثانوية.. ولا غش فى الامتحانات.. ولا بلطجة فى الجامعات. زمن كان فيه الأساتذة أساتذة.. والتلاميذ تلاميذ. لمزيد من مقالات عايدة رزق