أكاد أسمع همساته, يقول لمن حوله, وهو يخطو خطواته الأولي في الحياة: بداخلي أشياء كثيرة تتخبطني وتعتصرني, أشعر أن عالمي أصغر من قدراتي وطموحاتي, فمن يقدر علي فهم تطلعاتي وآمالي وأحلامي وامكانياتي المبكرة. ففي المسلسل الذي يحكي قصة حياة الشاعرالكبير نزار قباني, استوقفتني كلمة داخل حوار بين نزار الطفل الموهوب الذي يعشق الرسم وبين أمه التي تعاتبه علي رسمه علي حوائط حجرته, مما يكبدها تعبا فوق تعب لاعادة نظافة الحوائط من جديد. لماذا تريد تعذيبي يانزار وأنا انظف حوائط حجرتك بعد رسمك عليها, وانت لديك دفاتر كثيرة للرسم؟؟ فيجيبها نزار بكل براءة: أنا لا أعذبك يا مو, هي فقط الأفكار داخل رأسي كثيرة, كثيرة لاتسعها دفاتر الرسم, اما علي الحائط, فأنا أرسمها كبيرة كما أشعر بها!.. نظرت الأم الي ابنها الواعد, وشعرت أن لغته تختلف عن لغة أخيه او لغة أي طفل في مثل عمره!! وفتاة صغيرة لاتتعدي الخمسة اعوام من عمرها, كانت تحرص عند خروجها للنزهة, علي وضع نوته صغيرة وقلم صغير في جيب ثوبها... سلوك غريب, لم يفهمه الأب مباشرة, ولكنه شجعها علي هذه العادة, هو لم يعلم لماذا كانت طفلته تتمسك بالدفتر الصغير والقلم الصغير في مثل هذا العمر الصغير؟ ولكنه استمر في تشجيعها عليهما وظل يراقبها من بعيد, حتي كبرت وشقت طريقها في الحياة وأصبحت كما اختارت ان تكون, كاتبة, حياتها هي الكلمات وهواها الذي تتنفسه هو الحروف!! والطفل الصغير الذي كان يعشق تفكيك لعبه الي اجزاء صغيرة جدا, وكانت متعته اللعب باجزاء اللعبة المكسورة أكثر من اللعب بها كاملة وسليمة.. لم يعترضه أحد من أهله, ولم ينزعجوا, خاصة أن سلوكه المعتاد تجاه اللعبة تكرر كثيرا, وعندما كبر الطفل ذو المزاج الغريب في اللعب, أصبح مهندسا بارعا!! هذه الملاحظة الدائمة والمراقبة المستمرة للأطفال, هي ضرورية من الأم والأب والمدرس والمعلمة, لاكتشاف عبقرية جديدة, وطفل واعد يبشر بالأمل فنتيجة لضغوط الحياة اليومية, وقسوتها وسرعتها, لم يعد لدي الناس القدرة علي الملاحظة او التآمل او مراقبة جيدة, دراسة لسلوك الأطفال, فليس لديهم الوقت الكافي, فالكل مطحون في دوامة المادية.. وتعود الجميع علي نمط حياة رتيبة ليس به جديد او مثير أوباعث للدهشة! وعندما يري أحدهم شيئا غريبا وسلوكا مغايرا, وتصرفا غير مرتب, تعلو صيحات الاستنكار ويبدأ الصراخ للطفل الصغير الذي يتميز سلوكه بشيء مختلف عن اصحابه, او تكون ردود افعاله غير متوقعة, والطفل لايفهم حقيقة, سبب صراخهم!! فعلي الأم والأب مسئولية كبيرة في اكتشاف عبقرية أولادهم منذ الصغر, ليقودوهم للطريق السليم لتنمية قدراتهم ورعايتها لدي الجهة المسئولة المتخصصة في هذا المجال.. مطلوب أيضا أن يشعر المدرس و المعلمة داخل الفصل بعلامات نبوع بعض الأطفال لمراقبتها وتنميتها... فالعبقرية تكمن في طفل صغير يرفض التغريد داخل السرب, او يأتي بتصرف مغاير لتصرف الأطفال من سنه ممن حوله, مع احتفاظه بثقة غريبة في النفس واعتداد كبير بذاته.. فهل يوجد في مصر, جهة متخصصة في اكتشاف نبوغ وعبقرية الأطفال الصغار؟. فالصراخ والتوبيخ وفرض العقاب علي طفل يتصرف بغرابة ويشذ عن باقي جماعته, هو سلوك غير تربوي, سلبي, يدفن الموهبة والنبوغ الي الأبد.. فمصر تحوي الكثير من مشروعات العباقرة الصغار الذين ينتظرون الالتفات اليهم والاهتمام بهم ورعايتهم وتقديمهم للجهات المتخصصة, لتنمية عبقريتهم وتأكيدها وتشجيعها علي مر الأيام... مزيد من اليقظة, وسعة الصدر, وطول البال, والضمير, والجدية في تدريس الصغار والاهتمام بهم وبقدراتهم, لاكتشاف العباقرة الصغار الذين تزخر بهم مصر, لتوجيههم التوجيه السليم علي يد متخصصين في التربية, وعلم النفس.. فالطفل الذكي, الموهوب, المبشر والواعد, موجود حولنا وأكاد أسمعه يصرخ: اكتشفني... شكرا!!