التزييف وقلب الحقائق حرفة نعترف بأن أكثر من يجيدونها هم الإسرائيليون, علي مدي التاريخ لم يعرف أناس يحاولون بشتي الطرق تزييف وقلب الحقائق لكل ما يخدم أهدافهم وطموحاتهم, بقدرتهم وليس مسموحا لأحد بكشف هزائمهم وانكساراتهم.. ولكن ما حدث في أكتوبر العظيم( كيبور الأسود عليهم) جعلهم مشلولين لا يستطيعون الإنكار, وبرغم مما حاولوا من محاولات تزييف لهذا النصر العظيم, فإن محاولاتهم جميعها باءت بالفشل, ولعل أكثر ما فضحهم هو الداخل الإسرائيلي, ولعلها المرة الوحيدة من مرات نادرة فضحوا أنفسهم بأنفسهم, ولهم العذر,( فليس بقليل ما حدث في أكتوبر, فالذي أصبناه لا يمكن أن يوصف, والذي أصابهم أصعب من أن يوصف) كما يقول الأستاذ الكبير أنيس منصور رحمه الله عليه. الماما قوة عمياء تتوالي الانكسارات بالداخل الإسرائيلي, وتنقلب المائدة علي جميع القادة الإسرائيليين نتيجة انتصار أكتوبر الخالد, ولعل بداية الانهيار بدأ مع أكبر رأس في إسرائيل وهي رئيسة الوزراء حينذاك جولدا مائير. كانت جولدا مائير تلقب ب(ماما الإسرائيليين), وهي الأم المروحية لكل الإسرائيليين, ولكن هزيمة وفضيحة كيبور جعلت الإسرائيليين يطلقون عليها لقبا جديدا هو( القوة العمياء) لاعتقادهم بأن سبب الهزيمة هو سوء إدارتها وعدم تصديها للهجوم المصري بطريقة تجنبهم الهزيمة. لقد اعترفت جولدا مائير بأنها ما شعرت في حياتها بالضعف والهزيمة إلا عندما هجم المصريون في يوم كيبور, وما واجهته من تحقيقات فيما بعد بواسطة لجنة أجرلنت, واعترفت أيضا بأن الشخص الوحيد الذي شعرت أنه أكثر ذكاء وقادر علي خداعها كان السادات, حيث تقول: إنه خدعها مرتين.. مرة عندما قام بالاستعداد للحرب ثلاث مرات قبل يوم كيبور, ولم يفعل, وهو ما جعلني أقتنع بأن المصريين ليس بإمكانهم الحرب قبل عام..57 والثانية عندما سافرت لفيينا لحل مشكلة رهائن يهود لدي جماعة إرهابية فلسطينية قبل الحرب بأيام, وعلمت بعد سنوات أنها كانت مؤامرة من المصريين لصرف انتباهنا عما يحدث من استعدادات للحرب. مائير تنتحر وتستمر جولدا مائير في اعترافاتها في اليوم الثاني للحرب أنها كان عندها رغبة قوية في الانتحار بعد أن رفع لها وزير الدفاع يوم الأحد7 أكتوبر تقريرا حول الوضع علي الجبهتين المصرية والسورية, وقال لها: إنه أخطأ في كل شيء, وأن هناك كارثة محدقة بدولة إسرائيل, فتوازن القوي يتجه لمصلحة مصر وسوريا, والجيش الإسرائيلي لن يستطيع الرد, وعندما أحست بأن الدولة الإسرائيلية ستنهار, طلبت من مجلس الوزراء الأمني إخراج السلاح النووي الإسرائيلي وتوجيهه إلي أهداف معينة وإطلاقه في حالة الانهيار الكامل. المصريون لن يقبلوا استدعيت علي عجل لغرفة العمليات, لقد بدأت مصر وسوريا التحرك, وعبرت القوات المصرية القناة, وتعرضت قواعدنا العسكرية في غرب سيناء للقصف, لقد بدأت الحرب, هكذا يقول موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي حينذاك ويقرر حقيقة أدركها جيدا: لقد جاء الهجوم المصري السوري مفاجأة, لكنه لم يكن أمرا غير متوقع, وأنا شخصيا لم أكن أتوقع أن يقبل المصريون بتخندقنا علي الشاطئ الشرقي, وكنت أشعر أن وجودنا هناك معناه الحرب في أي وقت. ويسرد ديان تفاصيل البدايات: لقد تلقينا تحليلات ومعلومات بوقوع الحرب مرات سابقة, ولكن الهجوم المصري لم يكن يقع, لأن السادات قد غير رأيه في آخر لحظة عندما يكتشف أننا عرفنا بالأمر, وبذلك فقد عنصر المفاجأة فيلغي الهجوم أو يؤجله, لقد بحثت مع رئيسة الوزراء الضربة الجوية الرادعة, ولو أن هذه الضربة تمت لما استطاعت أن تغير مجري الحرب. ويطرح ديان حقيقة نفسية في العقلية الإسرائيلية فيقول: رغم شعورنا بالثقة, لكن القلق كان يملأ قلوبنا, فنحن غير معتادين علي أن نخوض حربا لا تكون المبادأة لنا, فيها إن الأمر الآن والمفاجأة المصرية أفشلت طبيعة الجيش الإسرائيلي الذي يعتمد تعبئة الاحتياطي, واحضار الجنود من وراء مكاتبهم ومن حقولهم ونقلهم إلي الميدان. كان اليوم الأول للقتال يوم كيبور نفسه يوما عصيبا, فقدنا الكثير والكثير من توازننا وقدرتنا علي استيعاب تلك المفاجأة أو الكارثة أو ما أحسسنا أنه بداية النهاية لدولة إسرائيل.. هكذا يؤكد ديان ويضيف: حتي منتصف الليل نقل المصريون للضفة الشرقية300 دبابة, وهناك1848 مدفع ميدان تغطي المنطقة, وخصص المصريون لكل ميل50 مدفعا مضادا للدروع, لقد بدأ المصريون بقوة من المشاة مشاة العدو المصري بعكس ما كانوا عليه سابقا, لقد كانوا مزودين بأعداد هائلة من الأسلحة المضادة للدروع, ويحملون الصاروخ السوفيتي استريلا الذي يستخدمه الفرد ضد الطائرات. مواقعنا فخاخ لجنودنا لقد أصبح العبور حقيقة واقعة, ولم تعد مواقعنا الحصينة سوي فخاخ للموجودين فيها إن لم نستطع رد المصريين للضفة الغربية, وهو الأمر الذي أصبح يفوق المستحيل في عدم حدوثه, لقد أصبحنا نواجه عددا كبيرا من القوات مجهزة بأسلحة جيدة, والأهم أنها مملؤة بالعزيمة والإصرار, وأيضا نواجه سلاح الصواريخ الذي شل قواتنا الجوية. ويعترف ديان بأنه في هذه اللحظة يجب أن نقرر الخطوات السليمة التي يجب أن تتخذها الأمة والجيش, وستكون صدمة قوية لشعبنا إذا قلنا لهم إننا لم نستطع أن نلقي المصريين عبر القناة, وأن جميع خطوط استحكامنا علي طول خط بارليف قد سقطت, ولكن يجب أن نكون صادقين مع الشعب لأننا لابد أن نعبئ بعض الكبار الذين لم نكن نستدعيهم فيما قبل وندرس إمكانية استدعاء من هم في سن ال17 للتدريب. ويقرر ديان حقيقة أدركها من اندفاع القوات المصرية وسيطرتها علي الجبهات, فيقرر أن نوعية المقاتل المصري قد تطورت, فهو في هذه الحرب أصبح يعرف كيفية استخدام سلاحه, ولعل ذلك نتيجة جهد وتدريب قوي, لقد أثبت الجندي المصري أن المفتاح في يد المقاتل لا السلاح.