في الأيام القليلة الماضية كنت أصحح وأعد للطبع رواية الكاتبة الفرنسية الجميلة «باسكال روز»، أقرؤها بقلبي وبعيني اليمني، وأتابع أخبار داعش بعيني اليسري في محاولة لمحاصرة ملامح هذا المسخ الذي جاء نتيجة لقاء ثلاثة أجهزة مخابراتية لثلاث دول هي: الولاياتالمتحدة وبريطانيا وإسرائيل، لإنجاب تنظيم إرهابي قادر علي استقطاب المتطرفين من جميع أنحاء العالم في مكان واحد، هذا وفقًا لاعترافات «إدوارد سنودين» الموظف السابق بوكالة الأمن القومي الأمريكية، إذًا هؤلاء هم مَن أنجبوا هذا المسخ لكي يحقق لهم خطة بريطانية قديمة نشروها علانية تُسمي «عش الدبابير»، وتتلخص في خلق عدو قريب من حدود دولة إسرائيل تكون شعاراته إسلامية متطرفة؛ وبالتالي سترفض وجوده الدول الإسلامية فيوجه سلاحه نحوها، ويتم استنزافها في محاربته فتتخلص الدولة العبرية من أعدائها وتتحقق لها الحماية. أتابع دهشة العالم بأسره وهو يري الداعشيين يعودون بالتاريخ أربعة عشر قرنًا إلي الوراء، يجزون أعناق الناس ويلعبون برءوسهم بعد قطعها، ولكنهم لا ينسون أن يكبروا قبل قطعها. يلقون بيانات لا تثير إلا عاصفة من الضحك، لكنهم لا يتوقفون للحظة واحدة ليرصدوا ردود الفعل، وإنما يدبجون غيرها بسرعة وعادة ما تكون أكثر إثارة للسخرية. منذ أيام كتبت شابة أجنبية أنها تظن أن الإسلام والمسلمين خطر علي العالم. ربما رأت الشابة أحد الداعشيين وهو يقطع رأس أحد الآمنين بدم بارد، وبالتأكيد يعرف الداعشيون أنهم بذلك قد نجحت مساعيهم لأن يكره العالم الذي لا تصله إلا هذه الصور المفزعة الإسلام والمسلمين، بالتأكيد يفرح الداعشيون كلما رأوا الرعب في أعين مَن يروعونهم، وبالتأكيد يعرفون جيدًا أنهم فتيل إشعال حروب جديدة. أما عيني اليمني فلقد كانت مستمتعة برواية «الصائد صفر» للروائية الفرنسية «باسكال روز» التي صدرت عن سلسلة الجوائز بالهيئة المصرية العامة للكتاب بترجمة آسرة للدكتور أيمن عبد الهادي والتي تُصنف علي أنها واحدة من أروع الروايات المكتوبة عن الحروب، وهي لا تتناول كيف يشعل عددٌ من الدمويين الموتوريين المعقدين نفسيًّا الحروب، ولكنها تتناول ما تخلفه الحروب في نفوس البشر. اسم الرواية الشعري «الصائد صفر» يظل محلقًا في فضاء الأحداث، فبالفعل الصائد هنا «صفر» في منظومة الأعداد حيث لا يصطاد إلا أرواح البشر ولا يخلف إلا أصفارًا متتالية لا تعني شيئًا. و»الصائد صفر» هو اسم طائرة مقاتلة يابانية من طراز ميتسوبيشي يركبها طيار واحد، ولقد استخدمتها القوات الجوية اليابانية في عمليات انتحارية فى أثناء الحرب العالمية الثانية. تدور أحداث الرواية إذًا عن كارثة من كوارث لا تُحصي، خلَّفتها الحرب العالمية الثانية، فبطلة الرواية «لورا كارلسون» لا تري والدها فهو يُقتل علي أحد موانئ اليابان فى أثناء الحرب العالمية الثانية، وتظل جثته هناك فلا تعرف له قبرًا تزوره فيه. تعيش الطفلة مع أمها التي لم تستطع تحمل فقد زوجها بهذه الكيفية فتُجن وتسير في الشوارع هائمة، ومع جدين بائسين يحاولان محاصرة جنون ابنتهما وأسئلة حفيدتهما عن أبيها.. وعن جدوي الحروب وعن أسباب ذهاب أبيها ليحارب ويَقتل فيُقتل، لا يستطيع أيٌ منهم الإجابة عن أسئلة الطفلة فتبحث بنفسها في أضابير التاريخ خصوصًا وقد بدأتْ تسمع صوتًا ملحًا مدويًّا مريرًا لا يسمعه أحدٌ غيرها، فتضع سدادات الأذن حتي تتخلص منه، ثم تكتشف أن هذا الصوت هو روح الانتحاري الياباني الذي فجَّر أباها بطائرته «الصائد صفر» وبالطبع قُتل معه، وبقيا الاثنان في الماء إلي الأبد.. القاتل والمقتول، هائمين في القاع، وربما حتي متعانقين. تحاول البطلة طوال صفحات الرواية التخلص من هذا الأزيز المرعب الذي يطاردها وتكبر وتتقدم في دراستها للتاريخ، وتحب موسيقيًّا بارعًا موهوبًا يُدعي «برونو»، يؤلف قطعة موسيقية لتخليد مأساتها، ولكنها فور رؤيته بزيه العسكري بعد استدعائه للجندية، ومعرفتها أنه سيذهب في عمليات لا تعرف عنها شيئًا، يعود الصوت الصاخب مرة أخري لمهاجمتها بقسوة هذه المرة، وتتقوض علاقتها بخطيبها فتتركه، للتفرغ لمعايشة كابوسها الدائم مع روح الانتحاري التي لا تغادرها في كل لحظات حياتها. تكتب «باسكال روز» ربما أروع وصف قرأته لقطعة موسيقية مترجمة إلي كلماتٍ: (وحل الصيف من جديد، أغلق «برونو» النوافذ وأجلسني علي الكنبة، أخرج اسطوانة ممغنطة من حقيبته ووضعها ببطء علي الريفوكس، برعونة كشفت انفعاله ضغط الزر وغطي الرأس بيديه. سمعت طنينًا لا يُحس بدا أنه أزيز الريفوكس. ثم مكثت كالحجر. إنه هو. إنه الصائد. هو في عمق السماء يقترب. يقترب. لا أريد. أسرعت لأطفئ الجهاز. أمسك «برونو» معصمي. أوقف حركتي. تظلل مروحة الطائرة الفضاء. أسمع كلَّ شيء. لم يحجب عني شيئًا. تسارع المحرك الذي يسبب الدوار، انفجار الكابينة، أعمدة الماء التي تتكسر علي جسر المركب. لكنه أضاف شيئًا ما من ابتكاره: صوت امرأة ينبعث وسط ضجيج صفائح الحديد. يصرخ باستمرار بصوت حاد يجعل البدن يقشعر. ثم يشهق، يرتد). الروائية لا يعنيها طوال الرواية مَن المذنب من الطرفين، ولكنها فيما يشبه السيمفونية العذبة تدين الحرب ككارثة ضد الإنسانية، وهي تدرس التاريخ وتمر علي أسباب إشعال الحروب بدون مبالاة، وباستخفاف كأنها تطرح السؤال الأدبي الشهير الذي طرحته عشرات الأعمال الأدبية الكبري قبلها: وهل كان الأمر يستحق كلَّ هذا الدمار وكلَّ هذه الدماء؟