بدا وكأنه يحمل الخلاص الأبدى ، ليس لأبناء وطنه الساكن كجسر بين الشرق والغرب ، بل لجيرانه المتاخمين له فى الأرض والفضاء ، وكم هم كثر ، مبشرا بصفر مشكلات ، هذا المصطلح الأثير الذى أفنى من أجله سنوات قضى جزءا منها فى ضاحية الهرم بالجيزة ، واضعا خلاصة أبحاثه بين دفتى مجلد تجاوزت صفحاته الستمائة، ولأن فوبيا أردوغان لدى الناطقين بلغة الضاد كانت فى أوجها تفخيما وتكريما ، هنا تسابقت دور نشر ودوريات فى الاحتفاء بهذا الإنجاز الموسوعى لأحد تلاميذه النجباء ، بثا وعرضا وتحليلا. لكن لكل قاعدة استثناء ، فكاتب هذا التقرير يتذكر جيدا أثناء حوار قصير فى مقر السفارة المصرية بأنقرة ، أن وزير الخارجية الأسبق أحمد أبو الغيط أبدى تحفظه على تلك السياسة ، ورغم حالة الود آنذاك بين القاهرة والعاصمة التركية إلا أنها لم تمنع أبو الغيط من وصفها بالخيال غير المجدى ، فالواقع لا يؤخذ بالنيات الطيبة من عدمها . وربما هذا ما تحقق بشكل أو بآخر ، فلا أزمة حلت، بل على العكس زادت وتراكمت، وها هى بعضها يستفحل لتصبح داء عضالا ، ولن نجد أفضل مما قالته صحيفة « جمهوريت « منتقدة هذا المبدأ مع الدول المجاورة فاليوم تركيا لديها خلافات مع كل جيرانها بلا استثناء أما « يورت « فندبت حظ بلادها التى فقدت دورها فى احلال السلام بالشرق الاوسط باتباعها نهجا طائفيا وابتعادها عن الحياد وتبنيها وجهة نظر فريق واحد فى مقدمته حركة حماس والمنظمات الاسلامية وخلصت فى تحليلها بنعت أوغلو بالوزير الفاشل فكيف له بمنصب رئاسة الوزراء ، حيث لم يتمكن من تحرير الرهائن الاتراك وعددهم 49 مواطنا بينهم دبلوماسيون واطفال مخطوفين فى الموصل على يد تنظيم داعش . وما يدعو للدهشة هو موقف وسائل الإعلام التى أعربت عن سعادتها لتولى صاحب العمق الاستراتيجى قمة الباشباكلنك ، إذ كتبت صحيفة صباح تحت « عنوان صفر مشكلات بين رئيس الجمهورية اردوغان ورئيس الوزراء داود اوغلو « قائلة أن اوغلو خلال عمله أحدث تغييرا كبيرا فى السياسة الخارجية وهو ما اعترف به الجميع لأنه أعاد مكانة تركيا ونقلها الى بلد محورى ومؤثر دوليا . وهنا الغرابة فمن أين جاءت بهذا الاستنتاج العجيب ؟ فالحقيقة هى العكس فالمأمول من القارة العجوز لم يتحقق، تحت وطأة سياسات العدالة والتنمية الحاكم الذى صار يذكرها بالاحزاب الفاشية قبل الحرب العالمية الثانية ، ولاغلو فى القول إن باب الاتحاد الأوروبى الذى ظهر ، لفترة وجيزة من الزمن ، وكأنه موارب يفصح عن بصيص ضوء ، بات منذ وقت ليس بالقصير ، موصدا تاركا خلفه تلالا من المتاريس التى لن ترفع مادام السيد اردوغان بالمشهد السياسى بالاناضول سواء كان رئيسا بروتوكوليا، وهذا ما سوف يحدث فى الغالب الأعم ، أو بصلاحيات يراد لها أن تكون مطلقة وهو المستحيل بعينه. إذا كان الأمر كذلك فلماذا أختيرالرجل إذن ؟ الاجابة سهلة لا تحتاج لعناء التمحيص والتدقيق ، فرئيسه لا يهمه نجاحه أو فشله ، بقدر أن يكون من اختاره طوع بنانه ، محللا لا أكثر ولا أقل ، ينفذ دون تردد أو نقاش ما يجول بخاطره لدعم سلطاته وإحكام قبضته على البلاد والعباد معا ، وأوغلو نفسه يعلم الدور الذى سيقوم به ولعل قبوله برئاسة الحزب والحكومة ما هو إلا نوع من تعويض إخفاقه لرئيسه ، فى صفر مشكلات الذى تحول إلى الألف مشكلة. ولتذليل أى عوائق يمكن أن تقف فى وجه صعود الأخير ، جاء تحديد السابع والعشرين من أغسطس موعدا للمؤتمر الاستثنائى للحزب، أى أنه لم يأت مصادفة وانما رتب ترتيبا دقيقا ، والهدف تفويت الفرصة لعودة عبد الله جول الذى انتهت رئاسته رسميا فى اليوم التالى ، لسدة الحزب وهو ما قد يؤهله لاحقا رئيسا للوزراء بعملية بسيطة جدا ، نائب يتنازل عن عضويته بالبرلمان ، وبعدها يعلن عن خلو الدائرة ، يترشح جول ثم يفوز ليصبح نائبا وبعدها رئيسا للحكومة وهو السيناريو ذاته الذى أعده اردوغان لنفسه عام 2003 . ولماذا كل هذا التخطيط ؟ الأمر واضح ، وهو أن الرئيس الذى حمل رقم الحادى عشر فى عمر الجمهورية الكمالية ، وفى ضوء شواهد سابقة لن يقبل بوظيفة حامل الأمانة ، واردوغان لا ينسى ما قاله صديقه ورفيق دربه إبان أزمته مع القانون الذى حال دون توليه رئاسة الحكومة كونه سجن ، حينذاك قال جول لست رئيس حكومة مؤقتا. والسؤال ماذا بعد؟ بعد عشرة ايام من انتخاب أردوغان رئيسا ، خرج إدريس بال المنشق من العدالة والتنمية الحاكم احتجاجا على الممارسات الظالمة بحق الداعية الإسلامى فتح الله جولين ، بتصريح ، وجده مراقبون مثيرا فالقوى الدولية لم تعد راغبة فى العمل مع أردوغان لسياساته الخاطئة فى سوريا التى ادت الى قتل الآلاف من المواطنيين الأبرياء ، كذلك الحال فى الشأن المصرى حيث بقت أنقرة بمفردها تقريبا فى موقفها المؤيد للرئيس المعزول محمد مرسى ، ومضى مسترسلا ، لكل تلك الأسباب ، ترغب فى ابعاده من المسرح السياسى عاجلا أم آجلا وستتمكن من ذلك حتى لو كان بالقتل !! ثم متوقعا أن تشهد تركيا تطورات سيئة جدا بأن الضغوط على اردوغان ستزداد مع نهاية العام الجارى ومتنبئا بأنه سيتخلى عن مهامه !! على صعيد الحزب فالمؤشرات تتجه إلى حدوث إنقسامات فى غضون الايام القليلة المقبلة ، هذا ما ذهبت إليه افتتاحية دورية »آيدلنك « اليسارية مشيرة إلى ان انصار عبد الله جول، بصدد تأسيس حزب وانه حصل بالفعل على دعم من الغرف التجارية والصناعية بعموم المدن التركية. وحتى كتابة هذا التقرير الاتصالات فى هذا الشأن مستمرة فضلا عن جهود تبذل بالمحافظات والبلدات لحث المنتمين للعدالة بتركه والانضمام للكيان الجديد الذى لم يستقر على اسمه بعد، وسيضم مختلف الأطياف السياسية من متدينين محافظين وديمقراطيين اجتماعيين وقوميين وليبراليين إضافة إلى شخصيات سبق لها العضوية بالبرلمان.