عندما أبلغتني الصحفية بالتليفون خبر موته الفاجع وطلبت أن أعلق عليه لزمت الصمت. فكرت لحظتها كلنا سنموت وجلال مثلنا ليس خالدا, لكنه ضروري لا غني عنه, مئات الآلاف إن لم يكن أكثر لا يبدأون يومهم إلا ببسمة كلماته الحريفة فمن لهم بعده؟ أعرف أن هناك غيره من الكتاب الساخرين المقتدرين والمحبوبين, لكن جلال لم يكن كاتبا ساخرا فحسب. عندما استجمعت نفسي قلت للصحفية ما معناه أن موت جلال خسارة فادحة لأن بعض الراحلين يسهل تعويضهم وآخرين يصعب تعويضهم, أما جلال عامر فيستحيل تعويضه. يستحيل بالفعل أن يظهر بديل لهذا الرجل بتاريخه ومواقفه وشجاعته وأسلوبه في التداعي الحر المعجز لتوالد الأفكار ولغته السهلة الممتنعة ومصريته الخالصة وخفة ظله الإسكندرانية, لكنه رحل عنا ومصره الحبيبة أحوج ما تكون إليه والمصريون الخلص في امس الحاجة لكلماته المنيرة وسط ظلام الفوضي والفتنة. لهذا لم يخطئ من كتبوا رثاءه حين ركزوا علي استرجاع واقتباس أقواله الموجزة الموجعة بسخريته العبقرية كترياق لتسكين الوجع. فمن يكون جلال عامر إذن؟ لكل ثورة في الدنيا سواء انتصرت أو انكسرت نموذج يمثل أنبل ما فيها. ليس من الضروري أن يكون هذا النموذج زعيما أو مفكرا كبيرا لكنه يجسد بحياته وعمله جوهر مبادئها. ومن هنا فنموذج الثورة العرابية عندي هو الفلاح المصري البطل البكباشي محمد عبيد الذي أنقذ عرابي وزملاءه من قادة الثورة في بداية أحداثها من قبضة الضباط الشراكسة الذين أرادوا اعتقالهم والقضاء عليهم, والذي حارب كل معارك الثورة حتي نهايتها وظل في معركتها الأخيرة في التل الكبير يطلق نيران مدفعه علي الإنجليز الغزاة وسط بوادر الهزيمة وواقع الخيانة من الخديو توفيق وأعوانه إلي أن سقط شهيدا, ويقول مؤرخون إنه استشهد حين صهرته حرارة مدفعه الذي تشبث به حتي النفس الأخير, دفع بحياته ثمن مبدأ الثورة في أن تكون مصر للمصريين حرة ومستقلة فمات علي قول الشاعر ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر. بالمثل فأنا أعتبر جلال عامر ضابطا مصريا آخر كان نموذجا حقيقيا لثورة23 يوليو وامتداد أفضل قيمها في ثورة يناير. حارب هو أيضا جنديا تحت رايات هذه الثورة, عاش مرارة النكسة وشارك في حرب الاستنزاف وكان قائد كتيبة معركة تحرير القنطرة شرق في حرب.73 هو نموذج لهذه الثورة لأنه ظل حتي آخر حياته يدافع عن مبادئها وأولها محاربة الاستعمار وأعوان الاستعمار, فلم يهادن الأعداء ولم يصالح الصهاينة أبدا. تمسك بشرف الجندية المصرية التي كانت عقيدة كل زملائه وقادته في الحرب. روي مرة أن قائده في الحرب اللواء فؤاد عزيز غالي كلفه بالتوجه إلي صفوف العدو لكي يسلم بناء علي اتفاق عسكري عددا من جثث الجنود الإسرائيليين القتلي في المعركة, غير أن اللواء فؤاد عزيز أمره ألا يؤدي عند تنفيذ هذه المهمة التحية العسكرية للضباط الإسرائيليين الكبار عند تسليمهم الجثث. وكتب فخورا أنه نفذ طلب قائده وأنه الضابط الذي لم يصافح أو يؤدي التحية العسكرية لأي إسرائيلي طوال مدة خدمته في الجيش وبعدها. وظل جلال عامر مؤمنا أيضا بقيم الدولة المدنية التي ترتكز علي مبدأ المواطنة كما جسدتها دولة ثورة يوليو, وكتب أكثر من مرة بإجلال ومحبة عن قائده المسيحي في الحرب, وظل الإيمان بالوحدة الوطنية علي قدم المساواة بين أبناء الوطن عقيدة لا تتزعزع عنده ولهذا كانت تفزعه حتي النهاية أحداث الفتنة الطائفية وكان يوجه اتهامه المباشر لصناع هذه الفتنة من المتعصبين الدينيين ومن يوجههم من خارج الحدود ولاسيما من دول الخليج التي ناصبت العداء ثورة يوليو ومصر الثورة في كل حين. ولم يغفر له المتعصبون في تيار الإسلام السياسي نقده اللاذع لهم وكان بعضهم يرد علي انتقاده الراقي عف اللسان من خلال ما وصفه بميليشيات الإنترنت الذين يوجهون له أحط السباب وأعنف التهديدات. غير أن جلال عامر لم يتراجع حتي بعد الانتصار الكاسح لتيار الإسلام السياسي في الانتخابات الأخيرة وراح يحذر أكثر من مرة من الأخطار التي تهدد مسيرة الوطن من تحالف مكتب الارشاد والمجلس العسكري مثلما اعتاد أن يكتب. وفي تجسيده لمبادئ يوليو كان جلال عامر هو الاشتراكي الكامل الذي دعت الثورة له وغني له عبدالحليم ممتدحا صفاته أبو زيد زمانك, وحصانك الهمة والخدمة الوطنية, ولكن حصانه كان ايضا قلمه الذي كرسه للدفاع عن العدالة الاجتماعية, وكان نشاطه السياسي الذي جعله يرشح نفسه مرتين في الانتخابات في عهد الطاغية المخلوع علي مبادئ حزب اشتراكي فحورب حربا استثنائية تمثلت في حصوله في احدي المرتين علي ستة أصوات لا غير في دائرته الانتخابية في الإسكندرية التي تضم عشرات الآلاف من الأصوات. والطريف أن الأمن الذي يحرس أو بالأحري يحاصر مقر اللجنة الانتخابية منع جلال نفسه من الدخول للإدلاء بصوته ربما خوفا من أن يصبح حاصلا علي سبعة أصوات! ودفع هذا التزوير الفاضح الشاعر وأستاذ الفلسفة الدكتور نصار عبدالله إلي كتابة مقال ساخر تحت عنوان جلال أبوستة, قرأه جلال عامر وكان بداية عهد لصداقة بين الكاتبين. الأهم هنا أني وصفت جلال عن حق بأنه الاشتراكي الكامل الذي سعت ثورة يوليو إلي إيجاده ولم تنجح في تعميمه وإن ظل جلال عامر والقلائل من امثاله نماذج للحلم المرتجي. فقد عاش ذلك الضابط المنضبط حتي آخر عمره أو قبيل آخره بقليل قانعا بمعاشه الهزيل ومرت به محنة الانفتاح التي جرفت كثيرين من طبقته لتحقيق الكسب السريع حلالا أو حراما وخرج هو من هذه المحنة طاهر الذيل والجيب. وأذكر اني قرأت له قبل سنوات قليلة عبارة لم أنسها أنا آخر واحد فيك يا مصر اشتري محمول واستشهد علي ذلك بصديقه العزيز الكاتب الساخر بلال فضل, ناسيا أننا نصدق قوله في كل حين. لم يكن اشتراكيا متحولا, ولم ينحرف يوما عن مبادئ ثورة يوليو التي آمن بها في طهارتها ومثاليتها وإن عاني ربما اكثر من الجميع من اخفاقاتها. وربما يكون قد سعد ايضا اكثر من الجميع بثورة يناير التي جددت كل أحلام يوليو وفاقتها ايضا حين حمل شباب مصر أمانة هذه الأحلام ووعد تحقيقها وأخذ جلال ينتظر مع الجميع عاما كاملا اشراق صبح هذا الوعد. غير ان ظروف وفاته الأليمة كما نشرتها صحيفة( الفجر) تكشف سر إبطاء هذا الاصباح المرتجي. كانت هناك مظاهرة رتب لها أحبابه من أبناء ثورة يناير في الإسكندرية تطالب بسرعة تسليم الحكم لسلطة مدنية وذهب يشاهدها في موقعها وهناك وجد مظاهرة صاخبة وافدة من خارج الثغر أتت للتحرش بالشباب وتتهم كل المطالبين برحيل المجلس العسكري بأنهم خونة وعملاء لأمريكا وعلي رأسهم6 أبريل وكفاية والجمعية الوطنية للتغيير وتصفهم بأنهم عملاء لأمريكا. أوجعه قلبه, أوجعه حقيقة لا مجازا, وطلب من مرافقيه إقناع الشباب السكندري بالابتعاد لأن قائد المظاهرة الدخيلة( الإعلامي الفراعيني) سيشعل الموقف وجلال يخشي علي شباب بلده. لم تعد قدماه تقويان علي حمله وهو يستمع إلي هتاف الدخلاء المجنون, ورأي بدء اصطدامهم بشباب مدينته, فتحامل علي نفسه و مشي حتي عاد محزونا إلي منزله وهناك سقط مغشيا عليه وهو يتمتم بآخر كلماته المصريين بيموتوا بعض قبل ان ينقل إلي المستشفي ويجري جراحة القلب التي فاضت بعدها روحه. تري ما هو أكثر ما أوجع جلال عامر في تلك اللحظات؟ صدام الدخلاء مع شباب بلده الثائر؟ أم تفكيره في زملائه من الضباط الذين شاركوه حرب تحرير سيناء ولكنهم يسمحون الآن بهذه الغارة علي الإسكندرية؟ أم ربما في سماجة هتاف زعيم الدخلاء نرفض هيكلة الشرطة لأنها أصلا متهيكلة! كيف تحتمل أذن صاحب العبارة الرشيقة الجميلة كلمة متهيكلة الغليظة هذه التي لا تنتسب أصلا للغة العرب؟ هل تغتال السماجة البهجة في حياتنا؟ رحم الله جلال عامر بقدر ما عاني, لكنه سيعيش في قلوب المصريين في قلب أحلام أبناء الإسكندرية. سيرفعون صورته حين ينبلج صبح الثورة الحقيقي الذي عاش وعشنا في انتظاره وسيكون معنا. المزيد من مقالات بهاء طاهر