ثار جدل واسع حول الاجراءات الاقتصادية التى اتخذتها الحكومة أخيرا لتخفيض عجز الموازنة العامة للدولة. و أبدى الكثيرون قلقهم من الآثار السلبية لقرارات رفع أسعار الطاقة، و بالذات المنتجات البترولية، على الفقراء و محدودى الدخل. وفى هذا المقال نحاول تقييم هذه الإجراءات المثيرة للجدل بوضعها فى السياق الصحيح للسياسة الاقتصادية، ووفقا لمنظور الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. ونحذر ابتداء من تبنى نظرة جزئية عند تقييم هذه الاجراءات سواء من جانب المعارضين لها أو المدافعين عنها، وعلى رأسهم الحكومة بالطبع. فكما يقول السلف الصالح بحق: «الحكم فى الشىء فرع عن تصوره.» و نبدأ ببعض المسلمات. أولاها: أن الوضع الاقتصادى لمصر بالغ الخطورة، و يحتاج إلى اصلاح جذرى. وثانيها، أن الاصلاح المطلوب يتطلب بالضرورة تضحيات كبيرة. وثالثة، أن محددات الاصلاح تمليها مقتضيات استكمال ثورة 25 يناير بشعارها الجامع: «عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية .. كرامة انسانية». و نستهل بطرح السؤال الكبير عن مدى خطورة الوضع الاقتصادى فى مصر حاليا. بصراحة مطلقة نقول إن الوضع الاقتصادى لمصر شديد الخطورة. و هو وضع غير قابل للاستمرار إلا بتكلفة باهظة اقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا، بل حتى امنيا. و المؤشرات كثيرة، لكن أهمها: (1) معدل نمو اقتصادى أقل من معدل نمو السكان و هو ما يعنى تراجع متوسط دخل الفرد و اتساع نطاق الفقر. (2) معدل تضخم أعلى من كل الدول المناظرة لمصر، بلغ حد الخانتين كما يقول الإقتصاديون (11-12% سنويا طبق للتقديرات الرسمية). (3) معدل بطالة نحو 13%، و يصل إلى 30% بين الشباب. (4) تزايد معدلات الفقر الى أكثر من 40% من سكان المحروسة. و هو اعلى من ذلك كثيرا فى الصعيد (68% فى محافظة أسيوط). (5) اتساع عجز الموازنة إلى حدود 13-14% من الناتج المحلي. (6) تصاعد الدين العام بمعدلات خطيرة (نسبته بلغت 94% من الناتج). (7) تراجع احتياطى النقد الاجنبى و تدهور قيمة الجنيه المصري. إن الوضع الذى وصفناه هو نتيجة تراكمات خلال فترة طويلة فى ظل حكم مبارك الذى جمع بين الفساد و الاستبداد و رأسمالية المحاسيب. و قبله حكم السادات و ادارة الإقتصاد طبقا للفهلوة وإنفتاح «السداح مداح». كما أن جزءا من المشكلة يكمن فى الفواتير المؤجلة- مثل مراجعة الحد الأدنى للأجر الذى بقى مجمدا طوال سنوات حكم مبارك و حتى قيام ثورة 25 يناير رغم التغيرات الهائلة فى الاوضاع الاقتصادية و الزيادات الكبيرة فى تكاليف المعيشة. و النتيجة هبوط نصيب الاجور فى الناتج من أكثر من 50% إلى أقل من 30%، و هو فى العديد من الدول أكثر من 60%. و نسارع بالتأكيد أن الوضع الاقتصادى رغم صعوبته إلا أنه غير ميئوس منه، بل هناك أمل للتعافى والانطلاق بمشيئة الله وارادة الشعب و حكمة القيادة وحصافة الخبراء. فعلى خلاف الوضع فى دول مجاورة، لم يحدث بعد اندلاع الثورة أى تخريب أو تدمير للطاقات الانتاجية بل مجرد تعطيل أو اغلاق للمصانع و المنشآت السياحية. و بالتالى يمكن للاقتصاد أن يسترد عافيته فور تهيئة الظروف الملائمة. و لكن ربما الأهم فى هذا السياق تلك الروح الجديدة التى خلقتها ثورة 25 يناير، و التى بمقتضاها تتحول المصريون من رعايا إلى مواطنين. نعم، لان الفرق بين المواطنين و الرعايا كالفرق بين السماء و الارض! كل ذلك يعنى أن الضوء قادم فى نهاية النفق، الذى قد يبدو الآن مظلما و طويلا. ولكن لابد من عمل شيء لإنجاز إصلاح حقيقي. وفى هذا السياق تحاول الحكومة اصلاح الاقتصاد. لكن كما ذكرنا فإن المدخل للإصلاح هو تحمل التضحيات. وهنا نود أن نؤكد أن العدالة تقتضى أن توزع التضحيات مع اختلاف فى الدرجة بين الفئات الإجتماعية المختلفة طبقا لقدرة كل منها على تحمل التضحية. فلدينا ساكنو القصور و ساكنو القبور. وبالتالى لا يمكن أن نطالب الفئات الفقيرة و الشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة بتحمل تضحيات لانهم تحملوا بما فيه الكفاية خلال نصف القرن الماضى على الاقل. بل نزعم أنهم تعرضوا للافقار الممنهج فى زمن الانفتاح والتهليب و عصر رأسمالية المحاسيب. و لم يعد بوسعهم تحمل المزيد. و ليس من العدل أو الرحمة أن نطالبهم بتضحيات أخري. فى المقابل هناك الاثرياء الذين كوموا الثروات و نهبوا خيرات الشعب بحكم علاقتهم بالسلطة وفى جو الفساد الذى استشرى فى البلاد حتى الآن. وللانصاف، ليس كل الاثرياء من هذا النوع. و الرأى عندى أن حزمة الاجراءات التى طبقتها الحكومة باسم الاصلاح قد تحيزت بشكل واضح للاغنياء و القادرين و على حساب الفقراء و المستضعفين. فها هى تصر على ترك الارباح الهائلة التى تتحقق من المضاربة على الاراضى و العقارات و السلع دون أن تخضعها لاى ضريبة على الاطلاق. و تجنبت اخضاع الثروة لاى ضريبة كالمعمول به فى العديد من دول العالم، مكتفية بالضريبة العقارية التى تقررت قبل 25 يناير. كما رفضت الحكومة تطبيق ضرائب تصاعدية على الدخل بمعدلات أعلى أسوة بالدول المجاورة مثل تونس و المغرب و لا نقول ألمانيا و فرنسا. وإكتفت بفرض 5% إضافية على دخول الأشخاص الطبيعيين و الاعتباريين التى تتعدى المليون جنيه و ذلك بصفة مؤقتة. و بعد تردد و تمنع طويل، أقرت الحكومة ضريبة طالما نادينا بها وهى الضريبة على صافى أرباح معاملات البورصة. لكنها فعلت ذلك على استحياء فيما يبدو، فإختارت سعرا متواضعا لهذه الضريبة وهو 10%. وهوأقل بكثير مما تطبقه العديد من الدول حتى الرأسماية المتقدمة، كما أنه يعادل نصف سعر الضريبة المطبق فى مصر على الدخل من العمل وهو 20%. فهل من العدالة الاجتماعية، أو حتى الكفاءة الاقتصادية، أن تفرض ضريبة على مكاسب المضاربة فى البورصة بسعر يعادل نصف الضريبة على دخل العمل وخلق القيمة؟ أترك الاجابة للقارئ العزيز و طبعا للحكومة، لعل و عسي! فى المقابل، جاءت قرارات الحكومة برفع أسعار المنتجات البترولية بنسبة 50% فى المتوسط لتزيد من الأعباء على الفقراء و محدودى الدخل الذين تحملوا تضحيات كبيرة كما ذكرنا. فهذه الزيادة أدت إلى رفع تكاليف الانتاج و النقل و رفع أ سعار السلع و الخدمات بأكثر مما يبرره رفع سعر الطاقة نتيجة إنفلات الأسواق. و يضاف إلى ذلك الاعباء المتضمنة بالقرار بقانون رقم 58 لسنة 2014 بفرض ضريبة مبيعات على المشروبات الكحولية و السجاير. ويقضى القرار بقانون بفرض ضريبة بنسبة 50% من قيمة كل عبوة سجاير، بالاضافة إلى مبلغ محدد لكل عبوة على حدة يتراوح بين 175 قرشا و 275 قرشا، طبقا لسعر البيع للمستهلك. صحيح أن تلك الضرائب تحل محل الضرائب الجائرة التى كان الرئيس الاخوانى محمد مرسى قد فرضها على السجاير و المعسل، لكنها تتضمن أعباء واضحة على الفئات الإجتماعية الضعيفة لأنها تغلب هدف الجباية على هدف العدالة. و قد سبق كل هذه الإجراءات إجراء شديد الوطأة على الفقراء، ألا وهو تخفيض وزن رغيف العيش المدعم من 130-120 جراما إلى 90 جراما فقط. هذا معناه رفعا فعليا لسعر العيش المدعم (مسمار بطن الغلابة) بنسبة 25%-30% بجرة قلم! إن قسوة هذا الاجراء تتضح إذا عرفنا أن الفقراء وهم حوالى نصف المجتمع يعيشون على رغيف العيش المدعم بصفة أساسية بعد الارتفاع الجنونى فى أسعار الخضر و الفاكهة و اللحوم والاسماك على خلفية قرارات الحكومة مؤخرا برفع سعر المنتجات البترولية. ورفع سعر رغيف العيش بهذه الطريقة يضر بالامن الغذائى للفقراء و بالامن الغذائى للوطن. إذن و نحن نصمم اجراءات الاصلاح و ما تتضمنه من تضحيات، لا بد أن نراعى تحميل القادرين الجزء الأكبر من تلك التضحيات. ولا يكفى أن نخاطب ضميرهم الوطنى كما فعل الرئيس فى كلمته إلى الامة بمناسبة ذكرى العاشر من رمضان عندما ناشدهم أن يمدوا يد المساعدة لمصر التى أعطتهم كل شيء. فالكثيرون منهم لا يفهمون هذه اللغة- لغة التضحية من أجل الوطن. و اللغة الوحيدة التى يفهمها هؤلاء هى لغة المصالح، يعنى «هات و خد» و ليس حتى «خد و هات». لقد أخذوا الكثير بالفعل، و على الدولة أن تستخدم كل ما لديها لاستيرداد حق المجتمع. وإن لم تفعل ذلك بدعوى الحرص على تحفيز الاستثمار، فإنها تكرس بذلك احساس الغلابة أنهم «اولاد البطة السوداء». إن ما حدث هو تعامل محاسبى و ليس اقتصاديا مع مشكلة العجز المالي. وأحذر من أنه سيستبدل تضخم ضغط الطلب الناتج عن عجز الموازنة بتضخم دفع التكاليف. و يظل الخلل الاقتصادى بحاجة إلى علاج. لذلك، فإنى من هذا المنبر ادعو إلى عقد مؤتمر قومى لبحث قضية الإصلاح تأسيسا على محددات ثورة 25 يناير و موجتها الثانية فى 30 يونيو. فهل تتجاوب الحكومة أو يستجيب الرئيس؟ مفكر اقتصادى وزير التضامن السابق لمزيد من مقالات د. جودة عبدالخالق