فى كتابه «إعداد الممثل» يشير الروسى الكبير «ستانسلافسكي» – أول من وضع نهج الممثل وملامحه الحقيقية – إلى «أن البلاغة فى الأداء هى التعبير المكثف الذى يصل إلى حد الإعجاز فى التحكم فى أدوات التوصيل المسموعة والمرئية». تلك قدرات خاصة لاتتوفر إلا لحفنة قليلة من فنانى العرب الأكفاء، ونادرا ما نلحظها فى زحمة الحركة الفنية التى تتسم بالصخب والضجيج الآن، ومن هؤلاء الفنان السورى المبدع «جهاد سعد»، الذى يعرض له - على استحياء- فى «حلبة دراما رمضان 2014» مسلسل «تماسيح النيل»، وعلى الرغم من فقر العمل على مستوى السيناريو والإنتاج وحتى الممثلين الذين يشاركونه البطولة - أستثنى منهم فقط الإعلامية الفنانة «ريهام سعيد» التى قدمت دورا جيدا- فإنه يبدو لنا صاحب علامة فارقة فى قلب الدراما المصرية ، على جناح الأداء الناعم المبطن بذكاء فطري. ويبدو لى أن بلاغة «جهاد» فى الأداء المبطن بذكائه الفطري، نابع من إلمامه الكامل بدراسة علوم الحركة والتربية البدنية والبيومكانيكية، فضلا عن إدراك عميق لأهمية توظيف الصوت وطريقة التنفس، وذلك بحكم عمله كمخرج مسرحى «هيستريا (2014) - كاليجولا (2008)- الأشباح (2006) - هجرة أنتجون (2005) كلاسيك (2001)- حكاية جيسون وميديا (1989) - خارج السرب»، وهو كاتب مسرحى أيضا، وممثل عشق الخشبة من نعومة أظفاره ،ومن ثم أصبح لديه ميزة نسبية فى توصيل المسموع والمرئى بوعى كامل فى لحظات التصعيد الدرامى بشكل سلس فى بعض المشاهد، والهبوط بليونة تشبه السهل الممتنع فى مشاهد أخري. صحيح أن «جهاد» قدم فى مسلسل «تماسيح النيل» شخصية رجل الأعمال المصرى بشكل مغايرعن ما سبقه من تجارب لممثلين كبارمشهود لهم بالكفاءة، وعلى ضعف كافة العناصر المحيطة بالمسلسل، لم تفلت منه اللهجة المصرية بل تحدث بها كأحد أبنائها، وربما يرجع ذلك لكونه تخرج بمعهد الفنون المسرحية بالقاهرة، وكم من علامات بارزة فى حياة هذا الفنان المبدع لم يدركها صناع الدراما فى مصر. وتلك الحقائق المؤكدة والراسخة فى شخصية «جهاد» لايدركها أحد إلا حينما ينصت – عن قرب - إلى حديثه العذب الشجى حول حياته المحاطة بأسلاك شائكة تكفى تماما لأن يكون لقدره من اسمه نصيب، فجهاد سعد، طاقة هائلة، وقدرة فائقة فى فن التجسيد، داخله بركان يغلى بالموهبة وخارجه مساحات رحبة من الهدوء الإنسانى الذى يستفز فيك بواطن القوة والشموخ. لجهاد تجربتان سابقتان فى الدراما المصرية من خلال مسلسلى «نابليون والمحروسة، وفرقة ناجى عطا الله»، والثالثة «تماسيح النيل» ولكنها جميعا لم تكشف بعد عن جوهر هذا المبدع الذى برع فى أعمال سورية تعد علامات بارزة فى تاريخ الدراما العربية، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، شخصيات: «مدحت باشا» في»سقوط الخلافة 2010»، «أكاى» فى «الكواسر – 1998»، «كايوس فى « الفوارس – 1999»، «أبو سفيان» فى «صدق وعده – 2009» ، «أورلاندو» فى «الظاهر بيبرس -2005»، «الأمير عبدالرحمن» فى «زمان الوصل -2002»، «أبو اياد» فى «غزلان فى غابة الذئاب – 2006»، «خليل» فى «الملاك الثائر» الذى يحكى سيرة «جبران خليل جبران»، والتى على مايبدو كانت تسكن روح «جهاد نفسه» فى مراتع الطفولة والصبا. تلك أدوار وشخصيات جسدها «جهاد» بدهاء بالغ الدقة وأريحية تشير إلى نضج التجربة، لكن يبقى محفورا فى ذاكرتى دوره فى «عرب لندن – 2008» الذى يعد أيقونة فى التحدي، فرغم حالات الانكسار والهزائم النفسية التى لحقت به كعربى مشرد فى قلب الصقيع ، كانت لاتفارقه ابتسامة وادعة وحركات بهلوانية «زورباوية» غاية فى الرشاقة التى تترك فى النفس غصة، وفى الحلق مرارة السنوات العجاف، لقد كانت إيماءاته فى لحظات الانسحاب الأخير غاية فى بلاغة الصمت الموحش، تلخص تاريخ «عرب لندن» وتعيد رسم خرائط النفس البشرية العربية المكلومة فى غياهب الغربة المحزنة.