كثيرة ومتلاحقة ومعقدة هى التطورات العراقية خلال الأيام القليلة الماضية، التى صبت جميعها باتجاه أن بلاد الرافدين كدولة باتت فى مهب الريح بعد التقدم السريع للمسلحين ضد حكومة نورى المالكى بقيادة عناصر مما يسمى بالدولة الإسلامية فى العراق والشام (داعش). يحاول البعض ان يوحى بأنها الفاعل الأول والوحيد فى الأحداث بعيدا عن مسببات انتفاضة العشائر السنية، أو الممارسات التى فجرتها العراق أصبح أو هكذا يراد له الآن ان يكون هو (داعش فقط)، حيث روج الإعلام الغربى لفكرة أن ما يحدث فى العراق هو إرهاب ولا شيء آخر ولابد من التصدى له دون أى دراية أو معرفة للواقع العراقى، لتتكرر الصورة الذهنية لقبول العرب بارسال حاملة الطائرات الأمريكية (جورج دبليو بوش) ومدمرات الى الخليج. جنيفر بساكى المتحدثة باسم الخارجية الامريكية اعلنت الجمعة الماضية ان (داعش) استولت على مصنع من مصانع صدام لانتاج الاسلحة الكيماوية «مغلق» شمال غرب العاصمة بغداد، ورغم ان بساكى قالت ان الموقع يحتوى اطنان من غازى (الفى اكس والخردل) فإنها لم تشر إلى ان الأممالمتحدة عملت لأكثر من 10 سنوات بحثا عن وهم امتلاك نظام صدام لاسلحة من هذا النوع، وان قوات بلادها التى احتلت العراق لم تجد أى اسلحة وهو الامر الذى اعترفت به الأممالمتحدة، ترافق مع ذلك أن الاممالمتحدة وضمن سياق الحشد المتخبط اعلن امينها العام ان واشنطن ليست بحاجة الى تفويض دولى جديد للقيام بأى عمليات فى العراق، فى حين أرسلت الولاياتالمتحدة بالفعل 300 من خبرائها الأمنيين لمساعدة قوات المالكى فى مكافحة الإرهاب مع عناصر من المارينز لتأميم مقر سفارتها فى بغداد. أوباما بعد الكثير من التقارير والمعلومات من اصدقائه داخل العراق وخارجه، حمل المالكى وحكومته مسئولية ما يحدث للشعور الكبير للعرب السنة بالتهميش والظلم وان القوة لن تجلب السلام الى بلد يعيش حالة حرب اهلية . ومع الكثير من التصريحات والتقارير التى اكدت للادارة الامريكية ان ما يحدث فى العراق الآن هو حرب طائفية تحت مسمى مكافحة الارهاب، وتاكيدات الكثير من القادة العسكريين وعلى رأسهم ديفيد باتريوس القائد السابق للقوات الأمريكية فى العراق ومدير المخابرات السابق بأن على أمريكا الا تكون غطاء جويا للميليشيات الشيعية، بدا أن واشنطن بدأت تدرك ان انجرارها مرة اخرى للمستنقع العراقى لن يخدم الا مصالح ايران وحلفائها من الميليشات الشيعية على الأرض، فإيران التى اعترفت بأن واشنطن ارسلت قوات من الحرس الثورى وفيلق القدس الى العراق لدعم المالكى أكدت الكثير من التقارير انها ارسلت بالفعل الآلاف من العناصر الخاصة الى بغداد وكركوك وديالى، إضافة الى حشد وتسليح واستدعاء الميليشات التى تقاتل فى سوريا بجانب نظام الأسد عراقية وغير عراقية، مع استنفار كافة المرجع الشيعية لاصدار الفتاوى بالجهاد ضد الارهاب والتى عبرت عنها فتوى المرجع الشيعى على السيستانى الاخيرة التى كان مثالا صارخا للاستعداء الطائفى واستخدمتها الكثير من الاطراف الشيعية المتطرفة فى هدم الكثير من المساجد فى بغداد وغيرها واغتيال خطباء وائمة مساجد وغيرهم من السنة كان آخرهم العثور على جثة استاذ الفيزياء فى الجامعة المستنصرية د.اسامة الراوي، فى بغداد بعد اقل من 24 ساعة على اختطافه، ليصبح الجميع امام حرب وفتنة مذهبية بامتياز. معظم القادة السياسيين العراقيين من الشيعة تحولوا الى قادة حرب وميدان يرتدون الزى العسكرى ويدعون للقتال.. إيران التى ترى ان مشروعها فى المنطقة على المحك الآن وتعانى الكثير من الازمات الاقتصادية كان العراق الرئة الاقتصادية لها على مدار السنوات العشر الماضية ويمكن التأكيد على انها الرابح الأول على الاصعدة كافة مما حدث، فاقتصاديا بلغ حجم تجارتها المعلنة مع بغداد اكثر من 15 مليار دولار خلال العام الماضى، وسياسيا فإن العراق اصبح القاعدة والورقة الرابحة فى تحركاتها ومشاريعها الاقليمية ومفاوضاتها الدولية لذلك كان الهجوم الأخير من قبل على خامئنى المرشد الأعلى للثورة الاسلامية واتهامه للولايات المتحدة بانها تريد زرع عملاؤها فى العراق ليحكموا وانه يعارض التدخل الاجنبى فى العراق رغم ان المالكى رجل طهرانوأمريكا هو من طلب التدخل الأمريكي، بل إن خامئنى الذى عارض التدخل الاجنبى كان هو من اول من ارسلت بلاده قوات للعراق حتى قبل بدء الازمة الاخيرة فى العاشر من يونيو الجارى. وتشير تقارير عدة الى حجم التواجد الإيرانى فى العراق ،وتمويلها وتدريبها للميليشيات التى تمارس القتل ضد جميع المعارضين العراقيين شيعة وسنة فى وسط العراق وجنوبه، وهو الامر الذى اظهرته الميليشات فى الكثير من الاستعرضات الاخيرة فى بغداد وغيرها من المدن العراقية، يقابل ذلك ان الوسط العربى السنى وجد انه ضحية لسياسات الاحتلال الامريكى والتدخل الايرانى. ورغم ان اعداد داعش حسب الكثير من التقارير ليست كبيرة، فإن ما يحدث على الأرض والامتداد الجغرافى للعمليات وكثرة المدن يؤكد انها لن تستمرطويلا فى العراق، وهو الامر الذى بدأت بوادره فى الاشتباكات التى شهدتها ديالى ووادى حمرين بين عناصر من الحركة النقشبندية بقيادة عزة الدورى نائب صدام وداعش والتى راح ضحيتها العشرات بين قتيل وجريح، يضاف الى ذلك فإن الكثير من الجهات داخل انتفاضة العشائر بدأت تبدى امتعاضها من اسلوب داعش وطريقة عملها، والجميع مازالت فى ذهنه تجربة القاعدة فى المناطق السنية وممارساتها وقتلها لعلماء دين وضباط وقادة مقاومين من السنة، وهو الأمر الذى اكد لكثيرين ان القاعدة تعمل بتنسيق مع ايران، ويشير احد هؤلاء بالقول (القاعدة قتلت من السنة أكثر مما قتل الامريكان والمالكى) مؤكدا انه لولا داعش والقاعدة لكان النظام السورى سقط منذ اكثر من عام وهو الامر الذى يتكرر فى العراق الآن بعد التصريحات من قادة داعش بشأن المراقد الشيعية والنجف وكربلاء. وتؤكد التقارير ان العمل المعلوماتى هو المحرك للاحداث على الارض وان اسلوب تنظيم الدولة الاسلامية فى العراق والشام فى التعامل مع قادة الفصائل والعشائر لايقوم على الصراحة فى ابسط الامور ومنها تغطية الوجة فى اللقاءات والاجتماعات. بالتوازى مع ذلك فإن الموقف الأمريكى الحائر أمامه عدة خيارات الأول: إما أن يقوم بعمليات مسلحة بطائرات بطيار أو دون طيار بالاعتماد على الاحداثيات التى تحددها قواعد أرضية عراقية أو بالاحرى ايرانية، مع إرسال مستشارين على الأرض ليقاتلوا بجانب ميليشيات شيعية قاتلهم وقتلتهم ليكرر السيناريو الذى كان يحدث فى أثناء الاحتلال ويقصف بناء على معلومات مغلوطة ومتعمدة اهدافا تخدم المالكى وإيران ثم يتم الانقلاب على قواته. الخيار الثانى هو ان يقصف تجمعات المسلحين فى المواقع الاستراتيجية التى تتأثر بها مصالحه مثل مصفاة النفط فى بيجى أو خطوط نقل النفط وآبار البترول وترك المعارك على الأرض للحسم بين اطرافها وانتظار ما يسفر عنه غبار المعارك من توازنات دون داعش. اما الخيار الثالث فهو ان تفتح واشنطن قنوات للحوار والاتصال مع قادة الفصائل المسلحة بخلاف داعش بالطبع للاتفاق على رؤية تخدم مصالح الطرفين، وتتيح التخلص من حكومة المالكى والنفوذ الإيرانى، على ان يكون ذلك بالتنسيق مع القوى الاقليمية العربية تحديدا لضمان الوصول الى صيغة تحافظ على العراق بتنوعه الاثنى والمذهبى . على كل الأحوال تبقى الأمور مفتوحة أمام جميع السيناريوهات والتعقيدات التى يبدو أنها لن تنتهى قريبا مالم تحدث مفاجأة غير متوقعة يمكن أن تحققها زيارة جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى ولقاءاته مع المالكى والقيادات السياسية العراقية.