حاولت واشنطن من خلال إستخدام آلتها الدعائية أن تقنع العالم بأنها "فوجئت" بما يحدث فى العراق إلا أن الواقع والوثائق والأوراق التى نوقشت بالكونجرس الأمريكى منذ شهور تؤكد أن واشنطن كانت تتوقع وتنتظر حالة الفوضى التى أصبح العراق عليها حتى تعود على صهوة الفوضى إلى العراق فى محاولة لترتيب الأوراق لتتماشى مع المرحلة الجديدة التى تمر بها المنطقة. ويبدو أن وقع تعقد الأمور فى الشرق الأوسط على الإدارة الأمريكية بعد الإخفاق المرحلى لمخططات “التفتيت”، التى إستهدفت الدول العربية الرئيسية فى المنطقة، قد أجبر واشنطن على اللجوء إلى مخطط “إحتياطى فرعى” يستهدف العودة إلى العراق وإستغلال الوضع الداخلى المضطرب بها لخدمة مصالح واشنطن فى المرحلة الجديدة التى تشهد إيران قوية غير معزولة، ومصر قوية تستعد للنهوض، ونظاما سوريا تمكن من النجاة، وسلطة فلسطينية عرفت طريقها للدولية، وتحالفا خليجيا ثريا تبنى دعم الاستقرار العربى، ودولة كردية وشيكة. ومثلما جاء الغزو الأمريكى للعراق فى عام 2003 على خلفية “أوهام”علاقات صدام بتنظيم القاعدة وامتلاك سلاح نووى، جاءت مخططات العودة مرتبطة بهجوم كبير نفذه تنظيم “غامض” هو تنظيم “الدولة الإسلامية فى العراق والشام” (داعش) ضد العراق فى يونيو 2014. فعلى الرغم من وجود “داعش” منذ سنوات، ومن تنفيذ التنظيم عمليات عسكرية على النطاق الإقليمى الممتد من لبنانوسوريا وصولا إلى غرب وشمال العراق، فإن الاهتمام بتحركاته وبتحركات المسلحين المناوئين للحكومة العراقية جاء بعد تحولات خطيرة فى ساحات القتال دفعت بالعراق لحافة الانهيار.
الخطة التليفزيونية
وقف الرئيس الأمريكى باراك أوباما أمام الكاميرات فى البيت الأبيض أمس الأول لتنقل للعالم الخطة الأمريكية للتدخل فى العراق استجابة لاستغاثات حكومتها بقيادة رئيس الوزراء نورى المالكى. خطة أوباما شملت إرسال 300 مستشار عسكرى وإذا تطلب الأمر ستكون هناك عمليات عسكرية محددة بدقة. وتقديم أفضل النصائح فى مجال التدريب والدعم للقوات العراقية، والاستعداد لإقامة مراكز عمليات مشتركة فى بغداد وشمال العراق لتبادل المعلومات ومواجهة التهديد. وأكد أوباما على أن وجود المستشارين ليس بمثابة إشارة على العودة للقتال فى العراق. وكما هو ملاحظ فإن الخطة الأمريكية تهدف إلى حماية واشنطن من الغرق فى مستنقع حرب أهلية طائفية بالعراق فى الوقت الذى تسمح فيه لواشنطن بالحصول على دور حاكم قادر على تحريك الأمور على مسرح الأحداث بواسطة أدوات مختلفة تتراوح بين التمويل والعمل المخابراتى والتدريب والتوجيه السياسى والتدخل العسكرى المحدود الدقيق فى حالات محدودة جدا بما يخدم المصالح الأمريكية. الخطة الأصلية
أما الخطة الأصلية للتدخل فقد ناقشها ممثلو الشعب الأمريكى فيما بينهم داخل الكونجرس منذ شهر ديسمبر عام 2013. فقبل أيام من عملية اقتحام مقاتلو تنظيم “الدولة الإسلامية فى العراق والشام” (داعش) لمحافظة الأنبارالعراقية ومدنها الرئيسية الرمادى والفلوجة فى الأيام الأخيرة من عام 2013 عقدت بمجلس النواب بالكونجرس جلسة لمناقشة الطفرة التى طرأت على نشاط تنظيم القاعدة والتنظيمات المشابهة (داعش). وخلال الجلسة الهامة تم تقديم وثيقة من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى استعرضت الحالة الأمنية فى العراق والتقديرات الخاصة بعجز عراقى متوقع فى مواجهة التنظيمات المسلحة. وتمت الإشارة إلى أن القوات الأمريكية “هزمت” القاعدة فى العراق بين عامى 2005 و2009، وأن واشنطن لديها المعرفة بكيفية تكرار الأمر ولكن التحدى الكبير هو فهم الأجزاء الباقية والصالحة للاستخدام من “تركيبة أو وصفة النصر”، بالإضافة للتعرف على العناصر التى يمكن دعمها فى بيئة ما بعد الخروج من العراق. وكانت الملاحظة الأولى هى أن العراق لا يمكنه الخروج ببساطة من تلك الأزمة. وهى رسالة واضحة تعنى أن العراق لا يستطيع الاعتماد على نفسه فى الفكاك من الفخ. أما الحل المطروح فكان تكرار ما قامت به القوات الأمريكية أثناء وجودها المكثف فى العراق وكان:(1) تجفيف مستنقع التجنيد الخاص بالقاعدة، و(2) إتباع الأساليب التكتيكية والعملياتية للمكافحة، التى تضمنت تعبئة المجتمع للمشاركة فى جهود مكافحة الإرهاب وتشكيل قوة “الصحوة” التى مارست دورها تحت حماية القوات الأمريكية والحكومية العراقية. (3) المكافحة الشاقة باستخدام القتل والإعتقال وهو ما يتطلب تقديم الدعم التكنولوجى والتسليحى اللازم للعراق. وباختصار تمت الإشارة إلى أن الحكومة العراقية خلال الفترة القادمة (2014 2018) عليها تقديم أفضل الخدمات للبيئة المناهضة للإرهاب. وتحدث الكونجرس عن الدور الأمريكى لتوجيه العراق نحو المصالحة الطائفية وهزيمة “خطاب القاعدة”(أو داعش) القائل بأن العراقيين العرب السنة لا أمل لقبولهم ولا أمن لهم فى عراق ما بعد صدام حسين. ويرى الأمريكيون أن الفصل بين السنة العرب “القابلين” للمصالحة عن “غير القابلين لها” يتطلب الانتهاء من عدة خطوات على المستويين السياسى والإستراتيجى لإشعار العرب السنة فى العراق بقدر أقل من العزلة واليأس وبالتالى يكونون أقل عرضة لدعم تنظيم “داعش”. أما عن كيفية إرضاء العرب السنة فقد تمت الإشارة إلى أن البوابة لتحقيق ذلك الهدف تكون عبر طمأنة “أمريكا” للعرب السنة ب”مواصلة مشاركتها” مع العراق ومعاملة العراق كأولوية عليا والاهتمام بما يجرى فى البلاد من تطورات سياسية. والاستمرار فى تقديم الدعم الأمريكى للمعتدلين من العرب السنة مثل الضغط لإعادة أحد المستبعدين من العمل السياسى إلى سابق عهده. وإعادة بناء قوات “الصحوة” تعد خطوة أساسية نحو إيجاد أهم كتلة سكانية مناهضة للتمرد على الحكومة فى العراق. وفى وثيقة أخرى تم توضيح سبل وكيفية العودة الأمريكية للعراق تحت غطاء مكافحة تنظيم القاعدة والتنظيمات التابعة له، والخطط اللازمة لتحقيق النصر على تلك الشبكة من التنظيمات التى اجتاحت أرض العراق بالتزامن مع الغزو الأمريكى للعراق عام 2003!. وتم تقديم الأشكال المقترحة للعودة الأمريكية إلى العراق وتشمل “دعم” واشنطن عمليات مكافحة الإرهاب والإصلاحات القضائية فى العراق فى إطار تقديم مساعدات أمنية محددة. وإضفاء الطابع المؤسسى على جهاز مكافحة الإرهاب بالعراق باعتباره وزارة مختصة. كما ينبغى الحفاظ على عملية بناء القدرات والتوسيع من نطاقها عبر العلاقات العلنية العسكرية العسكرية والتعليم العسكرى المحترف بالإضافة إلى التعاون المخابراتى السرى. وتم التنويه إلى أن التعليم العسكرى الاحترافى المدعوم أمريكيا يمثل جهدا حيويا طويل الأمد يشمل : التبادل العراقى مع جامعة الدفاع الوطنى الأمريكية، ومنح التعليم والتدريب العسكرى، ومنع انتشار السلاح النووى ومكافحة الإرهاب ونزع الألغام، والبرامج ذات الصلة. كما تم توجيه النصح بأن تعمل واشنطن على دعم قدرات العراق فى النقل الجوى وتوجيه الضربات الدقيقة. وبأن يرفع الخبراء الأمريكيون من مستوى الاندماج المخابراتى والتخطيط العملياتى وإستغلال المواقع شديدة الأهمية مع الطرف العراقى. وهكذا بدا من الواضح أن أمريكا تقدم “عرضا سخيا” لبغداد. فهى تملك مفاتيح تقليص العنف ومحاصرة القاعدة والتنظيمات التابعة لها. ولكن فى المقابل سيكون على العراق فتح بواباته على مصراعيها “عنوة” أمام المزيد من التدخل الأمريكى المباشر طويل الأمد فى شئونه الداخلية بل وفى تشكيل تركيبته الاجتماعية بما يضمن المصالح الأمريكية فى المنطقة لعدة عقود قادمة.