" انت من مصر ؟ .. بلد جمال عبد الناصر !! " .. هكذا هتفت بالإسبانية السيدة العجوز فى احدى جزر بويرتوريكو ، كانت منفعلة وهى تنظر لى بسعادة غامرة وقد اغرورقت عيناها بالدموع ، وكانها تشهد حلماً قد تجسد .. كان ذلك فى صيف 1984 ، حين قررت فى رحلة العودة لمقر عملى ان اقضى جزءا من إجازتى فى " سان خوان " عاصمة بويرتوريكو احدى جزر الكاريبى .. وعلى شاطئ بديع يطل على المحيط الهادى التقيت مع شاب وطنى ، وأدهشنى انه تحدث معى بالإسبانية ، فقد كان كل من التقيت بهم منذ وصولى الى المطار يتحدثون فقط بالانجليزية .. وبينما كنت أتأمل الى موجات المحيط التى تتكسر على الشاطئ الساحر الذى يتناثر فيه نخيل جوز الهند ، شرح لى فرناندو سبب استخدامه للإسبانية ، فهو عضو فى حركة تحرير بويرتوريكو ، ويمثل استخدام اللغة الوطنية احدى وسائل مقاومة الهيمنة الامريكية على بلاده . لاحظت اهتمامه المتزايد باخبار مصر ، واصراره على ان أصحبه لزيارة منزله فى احدى الجزر القريبة ، ورغم اننى توجست خيفة من هذا الإصرار ، وخلال الرحلة التى استغرقت حوالى نصف ساعة كان يؤكد لى ان والدته التى يعيش معها سوف تكون مفاجأة لى ، دون ان يفصح عن السبب ، وروى لى بعض أبعاد حركة المقاومة للتحرر .. بعد اللقاء الحار مع والدته السيدة " فرانشيسكا " ، أخذتنى الى حجرة نومها ، وهناك اشارت الى منضدة صغيرة فى ركن الحجرة وعليها صورة بالحجم المتوسط لجمال عبد الناصر .. قالت لى انها من الجيل الذى عاش فى صباه نمو الحركة الوطنية البويرتوريكية للمطالبة بالاستقلال عن امريكا ، وروت لى صدمتها عندما صدر قانون يحظر الاغانى الوطنية او رفع العلم الوطنى ، وان الياس تملك منها ومن جيلها ، وشعروا ان الذل والتبعية والاستعمار هو قدرهم ، حتى حملت الاخبار ذات يوم خبر انسحاب قوات الاستعمار البريطانى عن مصر ، ليتجدد الأمل لديهم ، وكان زوجها معها اعضاء فى حركة الاستقلال الوطنى الثورية المسلحة ، وقد قتل فى احدى المواجهات وتركها مع طفلهما فرناندو ، ولا تنسى ابداً المظاهرة التى شاركت فيها احتجاجاً على العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 ، ولا الاحتفال الضخم فى ميادين سان خوان وهم يحملون صورة عبد الناصر بعد هزيمة قوات العدوان الثلاثي.. رفعت صورة عبد الناصر وقبلتها ، مؤكدة انها كانت تحلم بزيارة مصر كى تزور قبر عبد الناصر ، وان زيارتى لها كاول مصرى تقابله من بلد عبد الناصر سوف يبقى فى ذاكرتها طويلاً .. بينما كنت اتذكر ما قاله كاسترو الزعيم الكوبى لجمال عبد الناصر:" لقد كنا نناضل فوق جبال " سييرا مايسترا " عندما وصلتنا اخبار انتصارك فى السويس ، تأكدنا اننا سوف ننتصر فى النهاية " .. سمعت صوت المذياع على المسرح فيفا ايخبتو .. فيفا ناصر " .. من نافذة الطائرة ، تاملت طويلا. فى تلك الجزيرة القابعة فى مكان بعيد ، التى ربما لا يعرفها كثير من المصريين ، كتبت وقتها فى دفترى الذى احمله دائماً معى : " هل كان عبد الناصر يعلم ان اثر الثورة المصرية قد امتد الى هذه المناطق النائية ، وان سيدة من بويرتوريكو ما زالت تضع صورته فى حجرة نومها بعد ان غادر دنيانا بسنوات طويلة ..؟" .. وسوف تمر سنوات اخرى عديدة قبل ان اتولى منصب مساعد وزير الخارجية للشئون الافريقية ، واجد فى كل زيارة لعاصمة إفريقية ذكريات عبد الناصر حاضرة وبقوة ، وان اكبر الشوارع فيها يطلقون عليها اسم عبد الناصر ، ولكننى لن انسى ابداً انه فى اثناء زيارتى لناميبيا ، أن رئيس ناميبيا السابق واحد ابرز قادة التحرر "سام نجوما " حرص على ان يستقبلنى بنفسه ، وروى لى كيف عاش فى مصرلاجئاً وكيف كانت مصر تزود حركة تحرير ناميبيا ( سوابو ) بكل ما تحتاجه بما فى ذلك تدريب قوات المقاومة ، قال لى المناضل الكبير انه لو ترشح ناصر رئيساً لأفريقيا لفاز بأغلبية ساحقة .. وبينما كنت انصت اليه لاحظت انه يضع صورة لعبد الناصر فى مكتبه .. صورة تشبه نفس الصورة التى كانت فى حجرة نوم " فرانشيسكا " ، رغم اختلاف الزمن والمسافة .. صورة جمعت ما بين قارتين ( افريقيا وامريكا اللاتينية ) وفى القلب منها مصر وفتاها عبد الناصر ...