هل يمكن للإنسان ألا يدفن بعد موته ويبقى بين أحبابه؟! تلك هى الفكرة التى تدور حولها أحداث الرواية. يأخذك الكاتب للصحراء الواسعة والسماء الصافية فيدفعك للتفكير فى معنى الحياة والموت,إذ تدور أحداث رواية «منافى الرب» لأشرف الخمايسى (الصادرة عن دار الحضارة) فى قرية «الوعرة», إحدى قرى الواحات, حيث تأخذك إلى عالم لم يطرقه كثيرون من الأدباء, يذكرنا قليلا برائعة الأستاذ بهاء طاهر «واحة الغروب», إلا أن «منافى الرب» أكثر تعمقا منها فى أجواء الحياة بالواحات. تبدأ الرواية برؤيا منامية لبطلها «حجيزى» الذى تخطى المائة عام من عمره, حيث يخبره الراهب «يوآنس» فى الرؤيا بموته الوشيك قائلا: «أكلت آخر ثلاث تمرات من زادك يا حجيزى، يبقى لك ثلاثة أيام من حياتك..» العجوز لا يرهب الموت ,فقد مات كثيرون قبله, وقام بنفسه بتجهيز ودفن أقرب أصدقائه «سعدون», لكنه الخوف من الدفن الذى يعنى بقاءه وحيدا يأكله الدود فى حفرة مظلمة, فى حين قضى كل حياته يجتهد لتكوين أسرته التى أحبها, حتى رأى أحفاده وراقب أكبرهم وهو يقع بحب طفلة صارت حكايته معها حديث الواحة, عندما نحت لها تمثالا يجسدها فى إحدى صخور الصحراء ففجر الغضب بين الأسرتين. للوهلة الأولى قد يتساءل القارئ عن معنى العنوان «منافى الرب»، لكنه لن يحصل على إجابة شافية سوى فى نهاية الرواية, إذ أراد الكاتب أن يحتفظ بدهشة القارئ حتى الصفحة الأخيرة، وتلك الإجابة قد نتخيل أنها تكمن فى حياة الرهبان فى الصحراء، لكن القارئ يجد فى انتظاره إجابة أخرى فى نهاية الرواية عندما يتحدث البطل «حجيزى» مع ابنه «بكير» ناصحا إياه ومحذرا من منافى الرب ولما يسأله الابن: وما منافى الرب يا والدى؟ يجيبه الأب: هى الحزن يا ولدى. الرواية فى مجملها, رغم أن بطلها يبحث عن حل لمشكلة تخص ما بعد الموت, إلا أنها تحتفى كثيرا بالحياة فى كل تفاصيلها, بداية من استعراض ملامح الواحة وأهلها الذين تكاد تشعر بحرارة أجسادهم ورائحتها فى بعض المواقف، وإذا كنا نأخذ على الكاتب تصويره لبعض المشاهد الجسدية الخاصة بين الأزواج, بدقة نراها لا مبرر لها, إلا أننا نجد أن هذه المشاهد غير مقحمة أو دخيلة, لكنها تكمل الحدوتة وتخدم الهدف من الرواية. ظل حجيزى يبحث عن حل لمشكلة الدفن فى الديانتين الإسلامية التى يمثلها الشيخ «مزيد» شيخ الجامع بالقرية وفى المسيحية من خلال الراهب «يوآنس», وظل يتنقل بينهما عسى أن يجدا له حلا يحفظ جسده سليما بعد الموت, و يقنع أولاده ألا يدفنوه و يبقوه معهم فى المنزل, لكنه لم يجد معهما الحل الذى يريده، فهو لا يريد أن يدفن وفى نفس الوقت لايريد أن يبقى على وجه الأرض جثة تأكلها الضوارى والكلاب، لهذا خطرت له فكرة أن يرحل إلى «موط» فى الصحراء البعيدة حيث شجرة البرتقال الوحيدة, والتى يتخيل أنه إذا طعم منها قبل وفاته لن يتعفن جسده بعد الموت, ومن ثم لن تخرج منه رائحة خبيثة ينفر منها الأحياء بل ستخرج من جسده رائحة البرتقال. وصنعة الحكى تعتمد على الجمع بين فصول سردية وأخرى حوارية, ولا يكتفى حجيزى بسرد حكايته بل يحكى حكايات كثيرة عن الواحة وأهلها, مثلا عن «غنيمة» المغرم بقصة المملوك الذى اجهد العثمانيين بحثا عنه فى الصحراء وفاجأهم بعدها بأن صلى الفجر مع الجنود فى الجامع الذى بنوه بالواحة واختفى بعد صلاة الفجر، وسعدانى وزوجته اللذين فقدا طفلهما الأول فى البئر واجتمع كل رجال الواحة لإخراج جثته الصغيرة من فتحة البئر الضيقة. والشاب «صبحى» المسيحى الفقير النازح من أسيوط والذى أحب الفتاة رائعة الجمال «سيرين» ابنة المعلم «نظير» الذى عمل فى محلاته وقبل وفاته حذره الرجل ألا يقترب من ابنته الجميلة لكنه اقترب وقتلها. أما الأنغام الأنثوية فى الرواية فكثيرة ومتنوعة، بداية من «سريرة» زوجة حجيزى التى تتحمل أفكاره المجنونة بصبر لأنها تحبه، و«بثينة» التى تفحمت جثتها وجثة صغيرها «جميل» بحضنها, و«ثريا» التى تتعجب من الحب الذى لا يزال يعطر قلوب العجائز. والرواية فى مجملها احتفالية بالحياة فى مكان ناء لا يزال يحتفظ ببكارته.