إقامة معرض للفنان عبد الهادي الوشاحي هو بلا شك حدث على مستويات عدة. فالمدهش أنه المعرض الأول لأحد أهم الأسماء التي أسست للجيل الثالث من النحاتين المصريين، فلم يحاول الوشاحي طوال حياته (2013-1936) أن يجمع أعماله في مساحة عرض واحدة تتيح له أن يرى الإقبال الضخم ويسمع الاطراء والثناء الذي تردد بين زائري قاعة أفق بمتحف محمود خليل في منتصف مايو الماضي. ربما أن هذا الفنان من الطراز الفريد كان يعرف مقدار موهبته التي لاقت الاعتراف الدولي منذ أن خطا خطواته الأولى في فن النحت ولم يكن في حاجة إلى جمع أعماله المقتناه من مؤسسات مختلفة ، أو لعل انجازه لقطعة نحتية واحدة (مثل شهيد دنشواي أو انسان القرن الحادى وعشرين) تستغرق وقتا وجهدا طويلا هو بمثابة معرض وحدث في آن واحد، أو ربما كما قال أحد المقربين منه، الفنان بسام الزغبي، إن «الوشاحي لم يطلب شيئا من أحد طوال حياته وهذا ما حافظ على استقلاليته التي طالما دافع عنها». كما أنها المرة الأولى التي يزاح الستار عن التمثال الصرحي لطه حسين الذي أتمه الفنان في نسخته الجصية ولم ير النور إلا بعد وفاته، والذي يعرض في حديقة المتحف، بينما تضم قاعة «أفق 1» حوالي 12 قطعة نحتية للوشاحي، إلى جانب بعض الاسكتشات والدراسات التي «تحكي» مسيرة صناعة كل قطعة فنية وتسمح بالتجوال في عقل الفنان، كما يضم المعرض أيضا محترفه الخاص، أدواته وأزاميله ومعاوله وفرشاه كما تركها «بحطة يده»، منظمة منمقة، هي إرثه الثمين الذي كونه عبر سنوات العمر، فضلا عن المكتبة التي ضمت بعض من كتبه في مجالات التاريخ والسينما والأدب، حيث كان الوشاحي من الفنانين واسعي الاطلاع تراه في معارض الدولة مع كبار الفنانين، وفي أماكن العرض البديلة التي يقصدها شباب الفنانين ولا يبخل الفنان عليهم بالمتابعة والتشجيع والنقد الحاد إذا لزم الأمر. ورغم ذلك كله، وبسبب ذلك كله، تشعر أثناء تجولك بين الأعمال بثقل غياب صاحبها، وتتمنى لو كان الله أمد في عمره ليشهد هذا الاحتفاء، ويرى مقدار اعجاب الناس بعميد الأدب العربي حين أطل علينا من جديد بعيون الفنان تحيطه هالة من نور، متكئا على مقعده يهم بالنهوض، فلا وقت اليوم للاستكانة، والتنوير قادم لامحالة، أو هكذا ترائت صورته للوشاحي. وقد يتبادر السؤال إليك لماذا يكون دائما المعرض الاستعادي بعد غياب صاحبه؟ ألم يكن من الأجدى لمن جعل الكتلة النحتية طائرة رشيقة متحركة متمردة على قانون الجاذبية، لمن تخطفت أعماله العواصم الأوروبية أن تتذكره الدولة في حياته ؟ وتأتي الإجابة من هنا ومن هناك، من منظمي المعرض، مدير القاعة ومساعديه، ليؤكدوا بشتى الطرق أن هذا المعرض الاستعادي تم الاتفاق عليه مع الوشاحي نفسه منذ أربع سنوات، وأنه بدقته وتدقيقه الشديدين، ورغبته في الكمال ما كان ليسمح للمعرض الاستعادي أن يرى النور في حياته. أو لعله كان يدرك بحدس السيميائي النحات أنه إذا ما جمع شتات أعماله ورفع الستار عن عمله الصرحي المرتقب، أي طه حسين، يكون قد ناقض الأسطورة وخط نقطة النهاية في كتاب حياته الحافل. تستحضر الأعمال المعروضة روح الوشاحي بقوة، الروح المتمردة على كل القوالب، المتخذة من التجريب شريعة لها، قد ترى في تمثال «البرد» (1960) عملا تقليديا من الخشب، لكنك ستجد التجديد يتجلى في بنائية الموضوع، أما في «محاولة ايجاد توازن» (1979) ستجد هذا البحث المضني الذي يشي به عنوان العمل والذي ميز جزءا من أعماله في محاولة ايجاد نقاط الارتكاز والتحليق متجاوزا قاعدة التمثال المتعارف عليها، وفي «استشراف» (1986) تتعرف على تقنية التفريغ التي انتهجها الفنان والتي مكنته من دمج التجريدي بالتعبيرية الشديدة، حيث تفرض الكتلة النحتية وجودها لتعطي الشعور بالامتداد أفقيا ورأسيا، مؤمنة بذلك على مقولة الوشاحي أن النحت الحقيقي يعني أن تحتضن الكتلة الفراغ، لا أن تترك له المجال أن يبتلعها. وماذا لو كان هناك اليوم وسط أعماله ومحبيه، هل كان ليرضى عن معرضه الأول ؟ كان الوشاحي حتما سيوجه سهام نقده اللاذع لغياب أي بيانات مصاحبة للأعمال المعروضة، التي توضح عنوان العمل وخامته وتاريخ انتاجه، أو ربما كان سيغضب ويمتنع عن تبادل الحديث مع الآخرين لأن الاسكتشات المصاحبة للأعمال النحتية قد تم رصها مثل جثة هامدة، وبمجرد أن يرى بريق الاعجاب في العيون المتأملة لتمثال طه حسين وتصله كلمات الانبهار من الزائرين، سيستحيل الغضب إلى تواضع وامتنان، وربما افتتان، فهو يعرف تمام المعرفة أنه وحده من يستطيع أن يحقق هذا التناسب والتناغمية في العمل الصرحي وينقل للمشاهد هذا الوميض الروحي في العيون الكفيفة. أما إن سألته عن رأيه في الكتاب الخاص بالمعرض الذي حمل بعض الشهادات من فنانين ونقاد إلى جانب دراسة متميزة ومعمقة في أعمال ومسيرة الوشاحي اضطلع بها الفنان الدكتور ياسر منجي أستاذ الجرافيك بالفنون الجميلة، كان سيبتسم ابتسامة رضا سريعة قائلا «مش بطال» ويتبعها برأي مفصل وموضوعي عن صاحب الدراسة «هو من القليلين العارفين النهاردة والذي بفضل معرفته الواسعة ولغته الأدبية الرفيعة يستطيع أن يقارن ويحلل الأعمال النحتية بفهم واقتدار».